صوت حكايات الجدات يخفت في عصر الوسائط الرقمية

لم تعد الحكايات القديمة التي ترويها الجدات مقنعة لأبناء الجيل الحالي الذي نشأ في زمن الوسائط التكنولوجية ذات الإمكانيات الهائلة في تقديم القصص وتجسيدها وسردها. فالتطور التكنولوجي وطبيعة عصر السرعة جعلا قصص الجدات مملة بالنسبة للأحفاد وغير مقبولة في نظرهم في ظل توفر البدائل البصرية الأكثر إثارة.
القاهرة – أصبح التواصل بين الأجيال المختلفة داخل الأسرة الواحدة صعبا في ظل التطور السريع للتكنولوجيا، وربما غابت لغة التفاعل في ظل التباين الواضح في شكل الاهتمامات، وهو ما ظهر بجلاء في حكايات الجدات لأحفادهن.
كان الأحفاد قديما يستعذبون لحظات صافية يجلسون فيها إلى جوار جداتهم ليسمعوا منهن حكاية لذيذة عن الشاطر حسن وأمنا الغولة، فعرفوا أن هناك خيرا وشرا في الحياة، وصراعات دائمة بينهما، وشخصيات تعمل لصالح الإنسان ورفاهيته وأخرى تجره للوراء.
ولا يقتنع الأحفاد الآن بهذه النوعية من حكايات الجدات، ويرونها غير معقولة وغير مقبولة وربما مملة بالنسبة لهم، لأنها بعيدة عن الواقع، وأيضا لأن الوقت وطبيعة الحياة لم يعودا يوفرا ترف الجلوس وقضاء أكثر من ساعة في الاستماع لقصص ومغامرات يجدون لها بديلا بصريا وأكثر إثارة عبر وسائط التكنولوجيا.
قالت نورهال صلاح، وهي طفلة تبلغ من العمر 11 عاما، لـ”العرب”، إنها لا تحب حكايات الجدات وتراها بعيدة تماما عن الواقع، وتصيبها أحيانا بانفصام في الشخصية. ما تقصده الطفلة لا يعني نفورها من قصص الخيال، لأن جميع حكايات الأطفال كذلك، لكن شعورها أن هذا الخيال دخيل على تفكيرها وزمنها وأقرب للحياة البدائية، حيث لا توجد في تلك القصص إمكانية للتواصل عبر الفايبر أو الواتساب، أو أي شيء يدل على وسائل التكنولوجيا المتطورة في العصر الحديث.
ويلاحظ البعض أن الأطفال لم يعودوا تواقين لسماع حكايات الجدات، ويسخرون غالبا منها في ما بينهم، ويرونها خارج عجلة الزمن، وتصيبهم بالدوار لأنها محفوظة عن ظهر قلب وتدور في عصور سابقة ربما لم يتم فيها اختراع العجلة.
الوسائط التكنولوجية تمنح الصغار حق الاختيار بين قصة وأخرى بينما يفقدون ذلك في القصص المروية عبر آخرين
وأكدت سناء محمد، وهي ربة منزل تعيش في حي المقطم، في القاهرة ولديها ستة أحفاد، لـ”العرب”، أن الأطفال يطرحون الكثير من الأسئلة المنطقية عند سماع الحكايات التقليدية، ولم تكن تفكر فيها من قبل، ولم تجد إجابات مقنعة لها، ما جعلها تشعر بعدم ترحيب أحفادها بالحكي الذي كانت بارعة فيه واكتسبته من جدتها.
واستغربت تكرار أسئلة “كيف” و”لماذا” من أطفال صغار لم يتجاوزوا السابعة والثامنة من أعمارهم، والمشكلة أنها تقف عاجزة عن الرد أحيانا.
وترى أن الجيل الجديد من الأطفال لا يقبل القصص المتعارف عليها عالميا، مثل سندريلا وغوليفر وأوليفر تويست، كما كان يفعل جيل الآباء والأمهات، مؤكدة أن هذا الأمر جدير بالبحث والمتابعة لأنه يُعبر عن انفصال حقيقي داخل الأسرة.
ويعتقد بعض الخبراء أن السبب في نفور الصغار من قصص الجدات قد لا يرتبط بعدم منطقية القصص أو بعدها عن الزمن فقط، وإنما هناك أسباب تتعلق بتطور وسائط الحكي وتأثيرها على أفراد الأسرة.
ويشير هؤلاء إلى أن سهولة عرض الحكايات على الأطفال عبر أجهزة “التابلت” (اللوح الرقمي) والمحمول تساهم بشكل كبير في تفضيل الرؤية المباشرة عن فكرة التلقي عبر السماع، والعروض، سواء كارتونية أو تمثيلية، تعد أقرب وأكثر تأثيرا من حكايات بعيدة تُعبر عنها الجدات بكلمات غير متداولة داخل الأسرة.
ويُدلل على صحة ذلك، ما حققه فيلم “علاءالدين” في نسخته الخامسة، إخراج جاي ريتشي، وبطولة ويل سميث والفنان الكندي من أصل مصري مينا مسعود، من نجاح كبير بعد أسابيع قليلة من قيام شركة “ديزني” بعرضه في العديد من الدول العربية، رغم أن القصة متداولة ومعروفة لدى الجميع منذ عقود طويلة.
وتقدم سلوى ممدوح، ربة منزل ولديها أربعة أطفال وتقطن في وسط القاهرة، تفسيرا منطقيا لتفضيل الصغار للحكايات المتلفزة، مفاده أن تقدما كبيرا حدث في وسائط وقنوات أفلام الأطفال خلال السنوات الماضية. وأضافت لـ”العرب” أن تطور شركة “نتفليكس” مثلا لعب دورا مهما في انتشارها داخل الدول العربية، بعد تخصيصها لعروض متميزة ومشوقة للأطفال ونجاحها في صياغة أكثر من وسيلة للتفاعل معهم عبر منحهم المشاركة في تحديد نهايات القصص، واختيار أحداثها أحيانا، لذلك باتت مفضلة لدى العديد من الأسر من الحكايات المتوارثة بشكلها التقليدي.
وأوضحت أن الجدات رغم قربهن من الأحفاد، ومحبتهن الطاغية، غير متواجدات بشكل دائم مع الصغار، ولا يلتقين بهم إلا في الزيارات النادرة، لذا فالصغار يعتادون الوصول إلى القصص عبر الوسائط الإلكترونية بسهولة، ما يجعلها أميز من قصص الأهل والأقارب والجدات.
ولفتت إلى أن الوسائط التكنولوجية المتنوعة تمنح الصغار حق الاختيار بين قصة وأخرى، بناء على الاسم أو الشخصية، بينما يفقدون حقهم في اختيار القصص المروية عبر آخرين.
ولا يعني ذلك أن القصص المروية من شخوص قريبين منهم مرفوضة تماما من الأطفال، فمازال هناك من يشعرون بحميمية وقرب إنساني في الاستماع إلى قصص الكبار، غير أن ذلك صار ضئيلا ومقتصرا على مجتمع الريف، وثمة من يرون أن الحكايات تمثل استرجاعا من الجدات أنفسهن لذكريات اندثرت وأزمنة ولت لا تفيد أفراد الأسرة الصغار أو تساهم في تنمية الحس النقدي.
وكشفت نوال أحمد، وهي تعمل أخصائية اجتماعية في إحدى دور رعاية المسنين بالقاهرة، لـ”العرب”، أن الكثير من الجدات يستعدن ذكريات جميلة عند سردهن قصصا لأحفادهن أو حتى لأي شخوص آخرين. وتابعت “الحكاية تعيش في خيال الجدات بشكل أكبر، وتمنحهن شعورا خفيا بالحنين لزمان أحببنه وشخوصا أثروا في وجدانهن وتركوا بصماتهم، وهو ما يجعلهن راغبات في نقل هذه المشاعر إلى الأطفال”.
ورأت أن الخيال في هذه الحالة يحقق للأجداد والجدات بعض الرضا، حيث يتيهون فيه بعيدا عن هموم الشيخوخة والأمراض المزمنة والوحشة من الفراغ، وهو عنصر يساعد على الاستقرار داخل جدران الأسرة الكبيرة.