صندوق النقد.. حائط مبكى تونسي

هناك صعوبات واضحة في الالتقاء بمنطقة وسطى بين تونس وصندوق النقد الدولي. لا يتعلق الأمر بخلاف حول تفاصيل الإصلاحات المقترحة، فالحكومة التونسية جاهزة لها وممكن أن تبدأ بتطبيقها خلال أيام.
تقف المشكلة عند التقديرات السياسية للرئيس قيس سعيد الذي لا يريد أن يجازف بوضع بيضه في سلة واحدة، وهذا منطقي فهو سيضع رصيده السياسي والشعبي محل مزايدة وضغط في ظل طبقة سياسية تتصيد المواقف وتؤولها وتستثمرها في المعارك اليومية بقطع النظر عن إفادتها للبلاد من عدمها.
ومع أن خيار صندوق الدولي لا بديل عنه في الوضع الراهن في ظل فيتو خليجي عن وصول الأموال إلى تونس، يبقى أن على حكومة نجلاء بودن أن تتحرك ليس للبحث عن بدائل، فهذا صعب وحتى وإن حصلت تمويلات فستكون محدودة ولا تتجاوز إدارة الشأن اليومي العاجل خاصة ما تعلق بالرواتب الثقيلة للقطاع العام وتسهيل عمل الوزارات والإدارات.
من المهم أن تتحرك الحكومة للتعاطي مع ملفات معلقة ولا علاقة لها بصندوق النقد الدولي، وتهم الأوضاع الحياتية للناس، وتقديم حلول ولو مؤقتة وتمرير إجراءات لتلطيف الوضع مثل ما يتعلق بمعركة الأسعار التي زادت بشكل لافت في شهر رمضان بفعل عامل اللهفة والإقبال الكبير على المنتجات، وبفعل سعي المحتكرين لاستثمار شهر الصيام لتحقيق المزيد من الثروة.
المشكلة تقف عند التقديرات السياسية للرئيس قيس سعيد الذي لا يريد أن يجازف بوضع بيضه في سلة واحدة، وهذا منطقي
الحقيقة أن المعركة مع الاحتكار لا تتطلب بيانات ولا خطبا سياسية، ولا زيارات فجئية من رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة. تحتاج هذه المعركة لتقوية قدرات فرق الرقابة الاقتصادية من حيث أعداد المكلفين بها، والدعم اللوجستي من سيارات وتشجيعات خاصة، وسرعة التنسيق مع رجال الأمن وتسريع عرض القضايا على القضاء حتى يرى الناس نتائج سريعة للحملة على الاحتكار.
لا ينتظر الناس توقيف رجل أعمال كبير أو شخصية سياسية قد تكون على تقاطع مع لوبيات الاحتكار، فتلك مسألة تعني السلطة السياسية بالدرجة الأولى التي تريد أن تظهر جديتها في المعارك مع كبار الفاسدين والمهربين والمحتكرين، وتوجه رسائل لمعارضيها داخل الدولة العميقة الذين لا يريدون لأيّ جهة أن تقترب من مربعات نفوذهم.
ما يريده الناس، وخاصة الفئات الفقيرة والمتوسطة، أن يروا بأعينهم نتائج الحرب على الفساد في أحكام قضائية أو خطايا مالية على تاجر المواد الغذائية الذي يرونه أمامهم ويعانون من زياداته للأسعار أو احتكاره للسلع، وعلى تاجر الأعلاف الذي ساهم من موقعه في رفع أسعار لحوم الضأن والبقر، من دون أن نحمّل صغار الفاسدين والمحتكرين مسؤولية من هو أعلى منهم درجة، والذي يفترض أن تراقبه الدولة في حركاته وسكناته دون الكثير من الضجيج.
تخاض المعارك الكبيرة في صمت وكتمان وبعيدا عن المعارك الإعلامية الفضفاضة التي عادة ما يستثمرها كبار المحتكرين وصغارهم في التغطية على خططهم، وفق إستراتيجية الأكل مع الذئب والبكاء مع الراعي.
من القضايا المهمة التي على الحكومة أن تحلها بيدها لا بيد عمرو، وهي قضية المشاريع المعطلة، وهي مشاريع كثيرة خاصة على مستوى النقل والطرقات
ومن القضايا المهمة التي على الحكومة أن تحلها بيدها لا بيد عمرو، وهي قضية المشاريع المعطلة، وهي مشاريع كثيرة خاصة على مستوى النقل والطرقات، والكثير منها ظل معلقا منذ سقوط نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، مثل شبكات الطرقات السيارة التي هي جزء من مقاربة أوروبية للشراكة مع تونس، بأن يتولى الاتحاد الأوروبي تمويل طرقات تربط العاصمة تونس بالشمال، والشمال الغربي، والوسط والجنوب، لتسهيل مهمة الشركات ورجال الأعمال في الاستثمار بالمناطق الداخلية والمساعدة على توطين الشباب فيها بدلا من مغامرة الهجرة غير النظامية.
ورغم أن التمويلات في أغلبها من مؤسسات مالية خارجية، إلا أن المشاريع تعطلت خلال السنوات العشر الأخيرة بسبب ضعف الدولة وعدم قدرتها على الإمساك الجيد بهذه المشاريع، فأحيانا يتوقف مسار طريق سيارة، مثل التي يفترض أنها ستربط العاصمة بمدن الوسط والجنوب الغربي (تونس – جلمة – قفصة – توزر)، بسبب تعنت مواطن تمر الطريق على أراضيه ويريد سعرا أعلى مما عرضته عليه الجهة المنفذة، في حين أن مهمة أجهزة الدولة هي حل هذه التفاصيل الصغيرة ومنعها من تأجيل مشروع كان يفترض أن يرى النور قبل سنوات، وهو إلى الآن ما يزال تخطيطا على أوراق مهندسي وزارة التجهيز.
ولا يقف ملف الطرقات عند الطرق السيارة التي يطرح تأجيلها التساؤلات وقد يمثل حرجا للحكومة أو لوزارة بعينها، فهناك ملف أكثر تعقيدا، وهو ملف الطرقات الداخلية في المحافظات، وخاصة الطرقات التي تربط المدن بالقرى والأرياف، حيث تضخ الدولة الكثير من الأموال على مشاريع يتم تنفيذها على عجل وبشكل سيء يخفي رغبة في التوفير، ولا يعرف إن كان هذا بتوجيه من الجهات الرسمية أم هو حيلة للتوفير الذي تستفيد منه الأطراف المتداخلة لتحقيق مصالح خاصة.
الكثير من هذه الطرقات تتعطل أو تتكسر منها أجزاء أو يجرفها السيل مع أول اختبار حقيقي، ثم تعيد الجهات المعنية في غالب الأحيان تكليف المقاول بالترقيع، وهو ترقيع مؤقت بانتظار ترقيع جديد في حركة شبهت بقصة صخرة سيزيف والمعاناة الأزلية.

لا تخفي هذه الحقائق حقيقة أن الدولة بدأت تستعيد عافيتها ودورها بعد 25 يوليو 2021 لسبب معلوم، وهو أنها باتت تمتلك شخصية محورية تمسك بالأوضاع وتديرها وتوجهها وفق قراراتها بعد أن فقدت الدولة هيبتها ونفوذها وقدرتها على التسيير بسبب الديمقراطية الرخوة التي سادت قبل ذلك.
ومن ضمن الملفات المفتوحة التي تثير المخاوف على المستقبل يمكن ذكر موضوع الماء والبلاد على أبواب جفاف قد يستمر لسنوات بفعل التغييرات المناخية. وإلى حد الآن ما يزال التعاطي مع ملف الجفاف بمنطق الصدمة والمفاجأة فيما لم تخرج المواقف الرسمية عن مجال الأمنيات.
وبدأت الحكومة الحالية تستكشف الملف، ولجأت إلى خطة لتقسيط المياه الموجهة للشرب فيما وضعت قائمة من الممنوعات بشأن تبذير الماء بما في ذلك ما يتعلق بسقي المنتجات الزراعية، في خطة يبدو من الصعب تطبيقها على الأرض في ظل التردد الحكومي والرغبة في عدم صدم الناس بخطوات جريئة من مثل وضع نظام يومي لقطع الماء.
من المهم أن تتحرك الحكومة للتعاطي مع ملفات معلقة ولا علاقة لها بصندوق النقد الدولي، وتهم الأوضاع الحياتية للناس
وضمن مسار الاستكشاف هذا، استقبل الرئيس سعيّد الجمعة وزير الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري عبدالمنعم بلعاتي، وتناول اللقاء مسألة “الشحّ المائي وما يجب اتخاذه من قرارات لمواجهة هذا الوضع” وفق ما جاء في بلاغ على موقع صفحة رئاسة الجمهورية التونسية على فيسبوك.
ماذا يمكن أن تقدم الحكومة في هذا الملف، هل ستلجأ إلى التحرك لاستثمار المياه الجوفية التي لا تعلم أيّ أرقام عن حجمها ومدة الاستفادة منها، وكيف ستتعامل مع موجة الهدر الفوضوي لهذه المياه الجوفية من خلال الحفر العشوائي للآبار ودخول رجال أعمال ومستغلين للمياه الجوفية لبيعها في قوارير بلاستكية معلبة، هل ستوقف هذا الهدر أم ستنتظر قليلا إلى حين امتلاك تصور تفصيلي للخطوات التي عليها اتخاذها لإنقاذ البلاد من العطش.
كل هذه الملفات لا تحتاج إلى أن تتوقف وتؤجل إلى حين البت في شكل التعاون مع صندوق النقد، الذي هو في الحقيقة حل ضروري وعاجل لإدارة ملفات عالقة لم تعد تحتمل التأجيل. لكنه ما يجب أن يكون حائط مبكى نقف عنده لنبكي عجزنا ونغلق أعيننا عن الواقع.