صناديق عيدان الكبريت للسكن

إذا كنا نتغاضى عن سبب تداخل فصول السنة مدعين أننا لا نعرف لماذا صرنا لا نفرق بين الصيف والشتاء ولا بين الخريف والربيع، فنحن لا نعرف فعلا اشتعال أسعار الشقق المتراصة على أراض وحقول بأشجار باسقة كانت تدر علينا خضارا وفواكه.
عمارات بأسماء جميلة كالدرة والفيروز والياسمين وغيرها من الورود والأزهار، لكنها ضيقة ينزل منها الميت واقفا في المصعد الكهربائي أو مائلا في الدرج، وأسعارها ملايين طائرة لا نلحق على عدها تشعلها القروض البنكية التي تداينك ثمن واحدة لتنال منك ثمن أخرى، صدق التونسيون حين قالوا إن البيت قبر الحياة رغم أن البنايات الأفقية تبدو لي كتوابيت عائدة من الحروب في المروحيات الحزينة.
ربما لذلك لا يكلم المتساكنون فيها بعضهم إلا بهمهمات أشك في أنها تعني التحية أو السلام، رغم أنه يتلصص فيها الكل على الكل، يعرفون ضيوفك ويعدّون ضحكاتك ويلومونك في سرهم عن نقاش حاد حول وجبة بلا رائحة.
شقق فوق بعضها كأنها صناديق أعواد الكبريت، مكتظة بالأطفال والقطط والكلاب، يقلّ فيها الضجيج نهارا لتزداد الهمسات والخصومات والشتائم ليلا في لقاءات بلا شوق.
وإذا رفضت تقبيل أفعى البنك أو لم تطلها، فإنك حتما ستقع في بئر المؤجرين وستخضع لشروطهم وأمزجتهم لتقضي العمر كمطربي الأعراس من بيت إلى بيت ومن حي إلى حي لا تصادق أحدا ولا تستأمن جارا وكأنك في محطة انتظار للمسافرين.
سيخرج الكندي قريبا من كتاب البخلاء للجاحظ بحججه في شروط عقد الإيجار خاصة مع الطلبة القادمين من الأرياف، فعدد المستأجرين يحدد معلوم الإيجار “لأن وجود شخص إضافي يزيد من سرعة امتلاء البالوعة ومن ذلك أن الأقدام إذا كثرت، كثر المشي على ظهور السطوح المطيّنة، وعلى أرض البيوت المجصّصة، والصعود على الدرج الكثيرة. فينقشر لذلك الطين، وينقلع الجص، وينكسر العتب”.
البيوت المؤثثة للطلبة تختلف في نظافتها عن البيوت السياحية لاختلاف ثمنها وزبائنها، فتجد طاولة كسيحة وكراسي عرجاء انسحبت للتو من معركة في حانة، وبرادا مزيّنا بالصدأ والأواني كأنها آتية من جهاز أرملة بلا أطفال.
في السهرة هناك التلفزيون الذي أتى متعمدا من سوق “البرباشة” بلا نوعية وربما بلا ألوان وهو كاف لمتابعة أخبار البلاد ليتوقف ويفسح المجال لمراجعة الدروس، أو النوم على أسرة متعبة في كل الأوقات المخصصة للراحة.
بعد أن صارت الحدائق العمومية بلا أمان ربما نجد قريبا حلول السكن إذا ما سُمح لنا بنصب خيام البرية في ظل غلاء الكرافانات، وسنعود مجددا غجرا نستمتع ببعض الحرية نتنقل بحسب حاجتنا في الخلاء كالشعراء على صفحة القصيدة.