"صدمة الرياضيات" تلاحق الأشخاص حتى بعد تخرجهم

تشكل الرياضيات بالنسبة إلى بعض الأطفال ذلك الغول الذي يرعبه مجرد ذكره لينجر عنه رفض لهذه المادة، ويصبح استيعاب كل تلك الأرقام والمعادلات الحسابية المعقدة مهمة مستحيلة، ويتحول الأمر إلى عقدة تلازم الشخص حتى بعد مغادرة مقاعد الدراسة.
تونس - لا تنتهي صعوبات تعلم الرياضيات التي يواجهها الأطفال بمجرد مغادرة مقاعد الدراسة، فقد تلازمهم خارج أسوار المدرسة لتسبب آثارا نفسية تكون رفيقة درب غير مرغوب فيها في مراحل متقدمة من عمرهم، لتكون حاضرة في تجاربهم الحياتية اليومية أو حتى المهنية.
ويطلق الخبراء على الشعور بالقلق، الذي تحدثه الرياضيات لدى البعض، بـ”صدمة الرياضيات”، وهو مصطلح أصبح يحظى باهتمام الباحثين الغربيين خلال السنوات الأخيرة فيعكفون على تجميع البيانات والملاحظات العلمية بهدف تقديم حلول لتجاوز هذا النوع من المشكلات النفسية.
لكن في العالم العربي يكفي انعدام الأبحاث والأرقام التي تتحدث عن علاقة التجارب السلبية للأفراد مع الرياضيات وأثرها في مسيرتهم المهنية أو حياتهم الشخصية، لتكشف غياب الوعي بأهمية معالجة هذه الظاهرة.
ولا يعني تجنب البعض للرياضيات أو شعورهم بالكره تجاههها أنهم لا يفهمون في هذه المادة، بل يؤكد الباحثون أن سبب كل ذلك هو تعرضهم لصدمة الرياضيات في مرحلة ما من عمرهم. ويزيد تعامل الأهل المبالغ فيه مع الرياضيات مقابل إعطائهم اهتماما أقل لمواد أخرى من إحداث صدمة الرياضيات لدى الأبناء. كما أن هذه المادة في البرامج التعليمية يركز عليها الإطار التربوي أكثر من غيرها، ليكون نصيبها عند احتساب المعدل العام أكبر من بقية المواد.
الخبراء يطرحون منهجية تعتمد على الاستمتاع أثناء تعلم الأرقام، وهو ما يساعد الأطفال على الإقبال على الرياضيات دون خوف
ونشرت سرور زموري، وهي أستاذة رياضيات تونسية من جزيرة جربة الواقعة جنوب شرقي البلاد، إعلانا على حسابها على موقع فيسبوك يفيد بأنها تقدم دروسا في هذه المادة لطلبة المرحلة الإعدادية، مؤكدة أنها وضعت مناهج تعليمية عملية لتدريس الرياضيات تساعد الطلبة على تحسين مستواهم في هذه المادة، وقد أرفقت إعلانها على الفضاء الافتراضي بملاحظة تشدد عل أنه “ليس هناك تلميذ سيء، بل هناك منهج تدريس سيء”.
تعتبر زموري، في تصريح لـ”العرب”، أن البرامج التعليمية التونسية هي الأقوى عربيا إلى الآن على الرغم من تراجع تصنيف التعليم في تونس عالميا.
وتؤكد أن المشكل يكمن في الأستاذ والطريقة التي يعتمدها لتدريس الرياضيات، قائلة “عندما وصلت إلى الجامعة وتعمقت في دراسة الرياضيات شعرت بنوع من الغضب على أساتذتي وفي الوقت نفسه شعرت بالشفقة على التلاميذ في المراحل التعليمية المبكرة، لأن تدريس هذه المادة سهل جدا ويمكن تبسيطه لهم”.
بالنسبة إلى سرور أول خطوة هي يجب على الأستاذ أن يحبب التلميذ في مادة الرياضيات مهما كان مستوى ذلك التلميذ، وبعد ذلك عليه أن يتبع أساليب التبسيط في تدريس المادة وعدم اعتماد الطرق البدائية. مشيرة إلى أن هذه الطريقة أساسية إذ أن العصر الحالي يعتمد على التكنولوجيا الحديثة وانتشار شبكات التواصل الاجتماعية.
ويرى الكثيرون أن الرياضيات لا أهمية لها في الحياة اليومية للأشخاص خارج جدران الفصل الدراسي، فما أهمية الجذر التربيعي للعدد 25، على رأي الفكاهي الفرنسي جاد المالح، عندما نذهب للتسوق مثلا. أصحاب هذا الطرح قرروا بسبب تجاربهم السيئة مع الرياضيات ألا يركزوا عليها ويهملوها مقابل تعويض نتائجهم السلبية فيها برفع أعدادهم في مواد أخرى تناسب مؤهلاتهم.
ويزعم هؤلاء أن تدريس مواد كاللغات والأدب والتاريخ والجغرافيا ستفيدهم في حياتهم الشخصية والمهنية في مراحل لاحقة أفضل من الرياضيات، فإلى جانب إتقان التحدث بلغات أجنبية للإلمام بجوانب من التاريخ الإنساني والأدب العربي أو أدب الشعوب الأخرى، فإن لها قسم هام في تشكيل معارفهم وثقافتهم العامة التي ستضمن لهم مكانة محترمة في المجتمع وتجلب لهم تقدير الآخرين وتدعم خبراتهم المهنية.
وترى سرور بعضا من الوجاهة في اتخاذ هذا الموقف، إذ ترى أن السبب في تكوين هذه الفكرة يعود إلى طريقة تدريس الرياضيات التي تركز أساسا على النتائج، وتقيم الفشل أو النجاح في تعلم الرياضيات بقدرة التلميذ على بلوغ المستوى الدراسي التالي.
وتقترح أن الأفضل أن يعلّم المدرس تلميذه كيف يوظف الرياضيات في حياته من خلال معالجة المعادلات الحسابية، إذ يجب أن يمر التلميذ بمراحل لإدراك النتيجة وأن يكون معتمدا بالأساس على الاستنتاج ويضع صوب عينيه الحل، وهو ما سيساعده على تخطي المشكلات والصعوبات التي تعترضه في حياته باعتبار أن الرياضيات علم واسع تتفرع منه علوم أخرى عديدة.
وتؤكد أن من يفقه علم الرياضيات لا يمكنه أن يعتمد على الحظ والصدفة في حياته اليومية، بل ينزع ليخطط كل كبيرة وصغيرة عند اتخاذ القرارات.
ويشارك سرور في هذا الموقف كثيرون يقدمون أمثلة كثيرة على أن الرياضيات هامة في حياة كل فرد حتى بعد أن يغادروا مقاعد الدراسة، فيمكن أن يستفيد من معلوماته في مجال الرياضيات والهندسة عند وضع مخطط تصميم المنزل أو القيام ببعض أعمال الصيانة المنزلية أو إدارة ميزانية العائلة وترشيد مواردها أو تسيير خطط عمله.
وتستمد هذه المواقف دعائم من تصريح جو بولر المصلحة في مجال الرياضيات والأستاذة بكلية ستانفورد للدراسات العليا في مجال التعليم، حيث تقول إن “الرياضيات أكثر من أي مادة أخرى لديها القدرة على تثبيت عزيمة الطلاب”.
وتحذر هذه الخبيرة الأميركية من التأثيرات السلبية لصدمة الرياضيات التي يمكن أن تقلل من مستوى فطنة وذكاء الأشخاص؛ سواء بتجنب الخوض في حل المسائل الرياضية ومواد أخرى أو تجاهل البالغين تماما للأمور الحياتية التي تعتمد على الرياضيات.
ويعتبر “صدمة الرياضيات” مصطلحا حديثا، مقارنة بمفهوم “القلق من الأرقام” الذي ظهر منذ عام 1957، ومن بين المصلحين في مجال الرياضيات الذين تحدثوا عنه؛ جنيفر روف الأستاذ المساعد في الدراسات التعليمية في جامعة أوريغون الأميركية.
ويشدد روف على أن “أحد أكبر التحديات التي يواجهها معلمو الرياضيات هو مساعدة عدد كبير من المدرسين في المرحلة الابتدائية. تخيل أن يتم تكليفك بتدريس الرياضيات للأطفال”، في إشارة إلى حجم التأثير الذي يمكن أن تحدثه دروس الرياضيات في المرحلة الابتدائية على التلاميذ لاحقا، والتي يعتبرها البعض “تجربة مرعبة”.
ويقترح الخبراء، كحلول، أن العلاج من صدمة الرياضيات يكون بالممارسة فلا أحد يأتي إلى الحياة مصحوبا بفهم فطري للرياضيات وموهبة طبيعية في التعامل معها. ويركز هؤلاء على أهمية التجارب الإيجابية في تعلم الرياضيات، وهنا يطرحون منهجية تعتمد على الاستمتاع أثناء تعلم الأرقام في مرحلة أولى ثم الرياضيات في مرحلة لاحقة، وهو ما يساعد الأطفال على دراستها والإقبال عليها دون الشعور بالقلق أو الخوف.