صحراء مصر الغربية فضاء لرصد النجوم والكواكب

السياحة الفلكية رحلات استكشافية للبحث في تفاصيل السماء ليلا، وانتشار التلوث في الهواء يقف حائلا أمام الاستمتاع برؤية النجوم والشهب والقمر.
الأحد 2019/08/25
النوم في العراء لكشف أسرار الكواكب

أحيت سياحة رصد النجوم والظواهر الفلكية بالتلسكوب في صحراء مصر الغربية، تاريخا طويلا فرضت فيه الحضارات الإنسانية اهتماما خاصا بالفلك. وبات الآلاف من السياح كل عام يخترقون قلب محمية الصحراء البيضاء بالواحات البحرية (جنوب غرب القاهرة) لإقامة معسكرات استكشافية ليلية باحثين في تفاصيل السماء بدافع الفضول وحب المغامرة.

 الواحات البحرية (مصر) - ظلت هواية مراقبة السماء ليلا، وتعقب أجرامها، ومتابعة الكواكب والنجوم، واختلاس نظرات سريعة بحثا عن نيزك عابر وشهب متأرجحة تقطع مسارها من بعيد أقمار من صنع البشر، غاية يبحث عنها الإنسان ويتمنى بلوغها باحثا في ذلك العالم الغامض والثري.

وصل الإنسان إلى القمر وما هو أبعد من ذلك، ولكن بقي فضوله يدفعه نحو البحث عن المزيد واستكشاف أوسع. فتح ذلك الفضول الإنساني نوعا فريدا من السياحة بدا جاذبا لآلاف الشباب العربي ولاسيما من مصر ينطلقون في قلب الصحراء النائية لرصد النجوم.

واستثمرت عشرات الشركات السياحية ذلك الشغف لتنطلق رحلات شبه أسبوعية لأنقى بقعة في قلب الصحراء الغربية. ففي الواحات البحرية وعلى بعد أكثر من 600 كيلومتر من القاهرة، تستقر معسكرات بدائية في أحضان محمية الصحراء البيضاء أو الكريستالية المتخمة بجبال عمرها ملايين السنين اكتست بالأبيض.

ويتكون كل معسكر من خيام وسيارات دفع رباعي، تبدو مثل النجوم المتلألئة من بعيد؛ صغيرة ومضيئة بفعل حلقات النار. في كل معسكر يتزاحم المخيمون حول تلسكوب كبير يتبادلون الأنظار للسماء الواسعة والصافية، تارة يلقون نظرات مستفيضة للقمر، الذي يظهر جليا عبر المنظار تتبين جباله وأوديته وسطحه الثري بالتضاريس، وتارة أخرى تتدلل الكواكب المجاورة للأرض لتظهر بحجمها الهائل تعكس لونا أحمر كثيبا.

نجم الشمال

مناظير وخيم لرحلة بسيطة
مناظير وخيم لرحلة بسيطة

تختلف رؤية الكواكب المتعددة بحسب مواعيد رصدها، كما يقول أحمد صبري، مدرس علوم الفلك بكلية علوم جامعة القاهرة، “شهور السنة الأولى تظهر كوكبي المريخ وزهرة بوضوح، حيث يمكن رؤيتهما كنقطة لامعة مثل النجوم، ولكنهما يختلفان عنها بلونهما الداكن..أما كواكب عطارد والمشتري وزحل فتبدو أكثر وضوحا في أشهر الصيف، ويمكن رؤية أقمارها أيضا”.

يرافق علماء الفلك بالجامعات كل رحلات الرصد السياحية، حيث يتم اختيارهم بعناية ليس فقط لتقديم شرح واف لأنواع النجوم وأسمائها وتوجيه المنظار إليها، وإنما أيضا لشرح حركة الشهب والنجوم وتطبيق الاستفادة منها في الحياة العامة.

يقول صبري لـ”العرب”، وهو يشيربإصبع السبابة نحو السماء، “ترى ذلك النجم شديد اللمعان والتوهج بين بقية النجوم.. ذلك هو نجم الشمال، مفتاح قراءة تضاريس الأرض والطرق عبر التاريخ”. ويوضح صبري أن رصد نجم الشمال تحديدا، مسألة مهمة للجميع، لأنه مدخل قراءة الخرائط ومعرفة الطرق  أثناء المرور في الصحراء أو المحيطات، وأيضا يستفيد منه المسلمون لمعرفة اتجاه القبلة إلى مكة.

يجمع صبري السائحين الذين تراوحت جنسياتهم بين مصريين وعرب وأجانب، جاء أغلبهم من أوروبا، حول حلقة النار، وهو يستكمل شرحه قائلا “من أجل رصد نجم الشمال، يجب معرفة أماكن النجوم الأخرى، وتخيل كل مجموعة نجمية بأشكال معينة وضعتها الحضارات السابقة ونقلتها إلينا. وضع النجوم لا يتغير لأن عمرها مليارات الأعوام؛ لذلك فشكل النجوم مثلا الخماسي أو شكل رامي الرمح يشيران إلى وجود نجم الشمال بينهما وذلك هو المفتاح”.

سياحة شاقة

موعد مع أفضل رؤية
موعد مع أفضل رؤية

تتميز صحراء مصر خاصة، والصحراء الكبرى الممتدة من الخليج العربي حتى الجزائر والمغرب، بكونهما من أفضل النقاط في العالم للرصد الفلكي، وهو ما يفسر اختيار آلاف الأوروبيين المفتونين بمشاهدة السماء للصحراء الكبرى والذين يجدون صعوبة أكبر في مشاهدة تلك النجوم والظواهر الفلكية النادرة في بلدانهم.

تقول سيو كيتو، وهي سائحة يابانية تقيم بباريس جاءت خصيصا لمصر من أجل زيارة الصحراء البيضاء للرصد الفلكي، “عندما تنظر في سماء فرنسا ثم تنظر بعد ذلك إلى سماء تلك الصحراء النائية تشعر وكأن هناك سماءين وأرضيْن ولكل منهما شكل مختلف”.

وتؤكد كيتو لـ”العرب”، أن انتشار التلوث في الهواء وقف حائلا أمام الاستمتاع برؤية النجوم والشهب والقمر، وهي إحدى الخسائر التي تلقاها الإنسان؛ فرؤية حركة الكون تملأ القلب بالسعادة وتثير المزيد من الفضول والشغف بفهم الطبيعة وما وراءها. وتختلف الأهداف التي دفعت الأجانب للذهاب إلى الصحراء عن المصريين الذي جاء أغلبهم من الشباب بسبب صعوبة تحمل عناء السفر، فكل شيء بدائي؛ النوم في العراء على مراتب إسفنجية غليظة وداخل خيام صغيرة، ولا يوجد مكان لقضاء الحاجة إلا خلف الجبال. وتضاف إلى ذلك ندرة الماء وغياب الكهرباء والاتصال اللاسلكي.

ترى بسنت مصطفى، طالبة بالسنة الأخيرة في كلية الحقوق، اختارت المبيت في معسكر الواحات البحرية مع ثلاثة من أصدقائها، “إن علم الفلك لا يعرف عنه أغلبنا شيئا سوى ما درسناه من معلومات قليلة في المدرسة، ولذلك إعادة استكشاف ذلك العالم تفتح لنا آفاقا أكبر للتأمل في صناعة الخالق”.

وتضيف لـ”العرب” أن الرحلة بكل أنشطتها جميلة وممتعة؛ فهي مغامرة في الطبيعة بداية من اختراق الصحراء بسيارات الدفع الرباعي ومشاهدة صخور وجبال لها أشكال فريدة بسبب العوامل الجيولوجية مرورا بمغامرة التخييم في منطقة نائية والبقاء ليلا لمتابعة السماء الجميلة وسط شرح شامل لكل ما يخطر في بال المتابع للفضاء الواسع.

وتقول بسنت إن الرحلة مناسبة للجميع، وبعيدة عن صعوبة النوم والبرد ليلا، لكنها تناسب الذكور والإناث وجميع الأعمار، مؤكدة “استمتعت بالمغامرة وسأكررها مرة أخرى عند الإعلان عن حدوث ظاهرة فلكية نادرة”.

رحلة الشغف

رغم أن سياحة رصد الفلك عموما ليست بجديدة على الفرق والمجموعات الفلكية في الجامعات، فإنها تحولت إلى نشاط مبهر للجميع وجذبت الشباب المتمرد والباحث عن تغيير في طريقة استمتاعه بحياته.

وهو ما يؤكد عليه محمد صلاح، مؤسس شركة “استرو- تريبس”، وهي إحدى أقدم الشركات التي أنشئت لإطلاق رحلات رصد النجوم في مصر، قائلا إن الرحلات الفلكية الأولى اقتصرت على طلبة كليات العلوم وبعض الأساتذة، ولكن مع الوقت اتسعت الأعداد وشملت سائحين من كل حدب وصوب، وما يجمعهم حب مشاهدة النجوم والكواكب.

ويقول صلاح لـ”العرب”، إنه لم يكن يتوقع النجاح الكبير لتلك الرحلات والإقبال الضخم، حتى أن الشركة باتت تطلق رحلات رصد النجوم بشكل أسبوعي.

ويتابع “وجد المسافرون في تلك الرحلات عودة كاملة إلى حياة البشر الأولى؛ فنحن لا نقدم فقط خدمة الرصد عبر التلسكوب، وإنما نقدّم أيضا استكشاف الدروب الصحراوية والاستمتاع بالجو البدوي من أكل وإقامة وغناء”.

ودفع الاهتمام الملفت بالفلك عموما إلى إطلاق فروع من شركات السياحة الفلكية تقوم بتقديم محاضرات ودورات للهواة لمعرفة المزيد من المعلومات عن علوم الفضاء.

الاستمتاع بالجو البدوي
الاستمتاع بالجو البدوي

ويوضح صلاح، وهو مدرس علوم فلكية بجامعة القاهرة، “أن الكثيرين باتوا شغوفين بعالم الفضاء والظواهر الغريبة بسبب ما تناولته أفلام أميركية شهيرة، مثل ‘انترستلر’ للمخرج الشهير كريستوفر نولان و’ذا مارتين’ للمخرج ريدلي سكوت، من مواضيع عن الفجوات والثقوب السوداء ويطالبوننا بشرح المزيد عن الفلك وآخر الاكتشافات”.

ويكشف صلاح أن هناك رحلات الآن أضحت متخصصة في رصد الظواهر الفلكية النادرة مثل القمر الحليبي الكامل والخسوف القمري والشهب الحمراء وغيرها، وتتم فيها الاستعانة بمناظير أكثر تطورا لمتابعة الظاهرة عن كثب وبشكل دقيق واختيار مناطق معينة تسمح برؤية أفضل.

وستستعد شركات رصد الفلك في الأسابيع المقبلة لتنظيم العشرات من الرحلات للمصريين والأجانب إلى صحراء الفيوم (جنوب القاهرة) والواحات البحرية من أجل مشاهدة ظاهرة تتكرر كل 25 عاما، وتسمى “سديم الهلال”، وهي عبارة عن سحابة من الغاز والغبار الكوني توجد على مسافة بعيدة من الأرض، وتعتبر المادة الخام لميلاد النجوم، وتتميز بلونها القرمزي المتداخل مع الغبار الأبيض.

وتصعب رؤية سديم الهلال، الذي ينتمي إلى مجرة درب اللبانة، بشكل عام، ولكن ستكون مصر على موعد مع أفضل رؤية بسبب امتداده بشكل أفقي يُسهّل رصدَه.

16