صحافيون من منازلهم: نهاية عصر المكاتب الصحافية

بدأت تجربة العمل عن بعد في المؤسسات الإخبارية، على أنها مجرد مرحلة مؤقتة واستثناء بسبب الظروف الصحية الطارئة، لكن اليوم ومع نجاح التجربة وصعوبة الأوضاع الاقتصادية، وجد الكثير من الناشرين حول العالم أن الواقع الحالي يفرض الاستمرار بهذا النهج ومتابعة العمل من البيت والاستغناء عن المكاتب.
لندن- أبلغ ناشر مجموعة “ريتش” الإعلامية البريطانية، غالبية الصحافيين أنهم سيعملون بشكل دائم من المنزل في المستقبل، في نهج متزايد لدى المؤسسات الإعلامية في العالم أجمع بهذا الشأن، باعتبار العمل عن بعد أكثر ديناميكية وتناسبا مع ظروف العصر الحالي.
وتملك شركة “ريتش” صحفا واسعة الانتشار مثل “ديلي إكسبرس” و”ديلي ستار” والمئات من الصحف المحلية المطبوعة والمجلات في جميع أنحاء المملكة المتحدة وأيرلندا.
ووفقا لصحيفة “الغارديان” البريطانية، فإن المجموعة الإعلامية قالت إن ثلاثة أرباع موظفيها لن يأتوا إلى المكتب بدوام كامل بعد الآن. وستفقد العشرات من البلدات متوسطة الحجم مكاتب الصحف المتبقية، وسيضطر الموظفون إلى الانتقال إلى أقرب مدينة رئيسية في حال رغبوا في العمل في مكتب الشركة.
ونتيجة للتغييرات، لن يكون للصحف الإقليمية التاريخية مثل “ديربي تيلغراف” و”كامبردج نيوز”و” ليسيستر ميركوري” مكاتبها الصحافية الخاصة. وينطبق هذا الأمر على غالبية المؤسسات الإعلامية في مختلف أنحاء العالم، وبعد أن كان العمل عن بعد مجرد مرحلة مؤقتة واستثناء بسبب الظروف الصحية الطارئة، قررت الكثير من غرف الأخبار الاستمرار بهذا النهج ومتابعة العمل من البيت والاستغناء عن المكاتب.
ودفع هذا الوضع الصحافيين والتقنيين في العالم، إلى تجربة أشكال جديدة لإنتاج مواد إخبارية عن بعد، بالاستفادة من التطبيقات الاجتماعية مثل واتساب وفايبر ومايكروسوفت تيم وزووم وغوغل تيم، وغيرها من التطبيقات، التي ساهمت في تواصل اجتماعات هيئات التحرير والإدارة بشكل تفاعلي كالمعتاد. واقتنع الناشرون ومسؤولو المؤسسات الإعلامية بأن وجود الصحافي في المكتب ليس ضروريا كي يكون عالي الإنتاجية.
وينظر خبراء الإعلام لاسيما في العالم العربي إلى أن هذا التوجه سيبعث نفسا جديدا في العمل الصحافي، وقدرة الصحافيين على الوصول إلى الأخبار ومواقع الأحداث بعيدا عن بيروقراطية المكاتب. ويقول هؤلاء إن أوضاع الصحافة العربية تتناسب مع نموذج العمل عن بعد، نظرا لتدهور أوضاع هذا القطاع بتأثير الأزمة المالية الموجودة منذ سنوات، وفاقمها الإغلاق وتداعيات انتشار فايروس كورونا وتراجع الإعلانات.

صحيفة "الغارديان" أبلغت العاملين لديها بأنهم سيستمرون في العمل من المنزل حتى الخريف
كما أن الحكومات خفضت من ميزانية دعم الإعلام، وبات على المؤسسات الصحافية التعامل مع الظروف الراهنة بخطة تقشفية وتقليص النفقات إلى أقصى حد. ويرى البعض أن النقابات والجمعيات المهنية المعنية بقطاع الصحافة في العالم العربي، تجانب الصواب في بعض الأحيان بالتكثيف من مطالبها للمؤسسات الإعلامية في وقت تعاني أصلا من أوضاع صعبة تهدد استمراريتها.
وفي حين أن البعض من المؤسسات الإخبارية العالمية نجحت في الاعتماد على نموذج الاشتراكات الرقمي لضمان استمراريتها، إلا أن هذا النموذج ما زال متعثرا في العالم العربي، في ظل سيطرة الأخبار المجانية وصعوبة إنتاج محتوى ذي جودة قابلة للبيع، ومع ذلك تتوالى مبادرات إطلاق منصات رقمية تعتمد على دفع اشتراكات شهرية رمزية، لا تتجاوز بضعة دولارات، مقابل استهلاك جزء من المضمون الصحافي المختار، وحتى الآن، لم تفلح هذه الاشتراكات في ضمان مستقبل اقتصادي مستدام للشركات الناشرة.
وتفرض الظروف الحالية على الصحافيين والمؤسسات الإعلامية، التأقلم مع الواقع الراهن والصعوبات المالية، وتقبل تخفيض النفقات كحل وحيد للحفاظ على الاستمرارية وتجاوز الانهيار الاقتصادي.
وقد عانى الموظفون والصحافيون منذ العام الماضي من مخاوف بشأن ظروف العمل عن بعد، وقالت “الغارديان” إن الموظفين المبتدئين ذوي الأجور المنخفضة كانت لديهم مخاوف مع العمل الدائم في مساكن منزلية ضيقة، وتأثير ذلك على المكانة المحلية للمنافذ وتدريبها إذا كان جميع الموظفين يعملون عن بُعد. ولكن بعد عام من عمل غرف الأخبار من المنزل، فإن الناشر مقتنع بأنه يمكنه المضي قدما في التغييرات بالإضافة إلى توفير التكاليف عن طريق إنهاء بعض عقود إيجار المكاتب التجارية.
ويمكن لتجربة مجموعة “ريتش” الإعلامية أن تكون مثالا لمؤسسات إعلامية أخرى في العالم، حيث ستحتفظ الشركة بمكاتب مركزية تضم قاعات اجتماعات في مدن متعددة، بلفاست وبريستول وبرمنغهام ودبلن وكارديف وغلاسجو ونيوكاسل وهال ولييدز وليفربول ولندن ومانشستر ونوتنجهام وبليموث.
فعلى الرغم من النمو الجيد للإعلانات الرقمية، لا تزال شركة “ريتش” تعتمد بشكل كبير على بيع الصحف المطبوعة التي تشهد تراجعا، ومن غير المرجح أن تتحسن المبيعات لاحقا.
لذلك ستعمل الشركة أيضا على تقليص حجم مقرها الرئيسي في لندن إلى النصف، مما يعني أن العديد من الصحافيين الذين يعملون في هذا المقر لن يتمركزوا هناك. كما سيتم إغلاق مكتب “ديلي إكسبريس” السابق في وسط لندن. فيما وعدت الشركة الصحافيين المحليين بـ”أنشطة اجتماعية منظمة مسبقا” لضمان استمرارهم برؤية زملائهم والتواصل مع بعضهم البعض.
وتتخذ المؤسسات الإخبارية الأخرى مناهج مختلفة بالنسبة للعمل عن بعد، لكن هذا يتبع لظروف هذه المؤسسات. فقد أبلغت صحيفة “ميل أونلاين” الموظفين أنه من المتوقع أن يبدأوا في العودة إلى المكتب اعتبارا من نهاية شهر مارس الجاري، بينما أبلغت صحيفة “الغارديان” العاملين لديها بأنهم سيستمرون في العمل من المنزل حتى الخريف، وكلاهما تمتلكان رؤية مشتركة بشأن أن يكون الموظفون مقيمين فعليا في غرفة الأخبار على المدى الطويل.
الحكومات خفضت ميزانيات دعم الإعلام، وبات على المؤسسات الصحافية التعامل مع الوضع بخطة تقشفية وتقليص النفقات
لكن يبدو أن الصحافيين يشعرون بارتياح لفكرة استمرار العمل عن بعد، فقد وجدت دراسة استقصائية داخلية أجرتها مجموعة “ريتش” أن معظم موظفيها قالوا إنهم ليسوا بحاجة إلى أن يكونوا في مكتب للقيام بعملهم. ووجد نفس البحث أن 70 في المئة من الموظفين ما زالوا يفتقدون رؤية زملائهم شخصيا.
وأفاد متحدث باسم الشركة “أجرينا استبيانا لجميع الموظفين، أظهر أن الغالبية وجدت أن العمل في المنزل يناسب احتياجاتهم. وسيكون الزملاء المتقدمون في المستقبل إما من المنزل وإما يعملون بشكل أساسي من المنزل، مع حوالي ربع الموظفين سيكون مقرهم في المكتب”.
وأضاف “الموظفون يعملون من أحد مراكزنا الـ15 في جميع أنحاء البلاد. يوفر هذا الحل المزيد من المرونة مع القدرة على الوصول إلى مساحة الاجتماع للتواصل وجها لوجه وتلبية حاجة التواصل الاجتماعي، عندما تسمح قواعد الإغلاق بذلك”.