"شيخ جاكسون" في مصر.. الفكرة تهزم الفيلم

لأناتول فرانس قصة عن مهرج سيرك لجأ إلى دير، فرأى الرهبان المنقطعين عن الدنيا يتفرغون للتبتل والصلوات وإلقاء الأشعار في تمجيد السيدة العذراء، ولم يسعفه شيء يعبر به عن إخلاصه، ولا يملك من الخشوع ولا الفصاحة رصيدا يقدمه قربانا للسيدة العذراء، فاختار ساعة يختفي فيها عن الأنظار. ثم راقبوه فإذ هو يقدم بجسده الرشيق استعراضات بهلوانية أمام أيقونة السيدة العذراء، وغضب الرهبان واتهموه بتدنيس المكان المقدس، وعدم الوقار أمام جلال السيدة العذراء، وفوجئوا بخروجها من الأيقونة تمسح عرق المهرج، وتحتضنه وتحميه من ثورتهم عليه، لأنه مخلص وطيب القلب، وأراد أن يدخل إلى قلبها السعادة.
|
لم يرفع مهرج السيرك شعارا، ولم ينكر ماضيه، ومارس بصدق شديد ما يعرفه. أما “خالد” بطل الفيلم المصري “شيخ جاكسون” فظل أكثر من 90 دقيقة، تجسد طفولته وشبابه، حائرا مرتبكا، لا يعرف من يكون: الصبي المهووس بمايكل جاكسون، أم الشاب الذي يؤم المصلين ويلقي عليهم المواعظ؟ ثم يتصالح مع ذاته الموصولة بعشق الحياة عبر موسيقى جاكسون، في المشهد الأخير بهيئته “الدينية” التي ترضي المشاهد وتطمئنه، ولا يهم مدى اتساقها مع التصاعد الدرامي من عدمه.
من الإعجاب إلى التشدد
عدم اليقين أمر محمود، والقلق ضروري للحياة والدراما، ما لم يكن مجرد فكرة أكبر من قدرة صنّاع الفيلم على معالجتها، فيكون اللجوء لثرثرات أقرب إلى محاضرات منقولة من الكتب المدرسية، وبدلا من حضور المواقف يُكتفى بالحكي عنها، كما في الحوارات المطولة بين الطبيبة النفسية (تقوم بالدور الممثلة بسمة) وبطل الفيلم (يقوم بالدور الممثل أحمد الفيشاوي) الذي يرفض أن يعلن لها عن اسمه، ويعزف عن جلسات العلاج، وهو يشكو من أمرين: تراجع إيمانه بدليل عدم قدرته على البكاء في الصلاة، والكوابيس التي تحرمه من النوم.
يبدأ الفيلم بكابوس يتكرر بتنويعات مختلفة، لمشهد موت أو جنازة أو قبر يحتشد فيه أموات وأحياء، ولم يكن “شيخ جاكسون” هيابا من الموت، فهو أحيانا ينام على الأرض تحت السرير، ليستحضر الحياة الأخرى بعد الموت.
ولكن بداية بطل الفيلم (أدى الدور في الصبا باقتدار الممثل أحمد مالك) كانت ترشحه لنهاية مختلفة. ففي طفولته سمع زميلته في المدرسة تتكلم عن مايكل جاكسون، فسأل أباه وهو رجل بوهيمي (الممثل ماجد الكدواني) من يكون؟ فقال إنه “مخنث”، ولم يعرف الطفل معنى الكلمة، ولم يجد إجابة من أمه أو زميلته التي شاركها في حب مايكل جاكسون.
وتماهى الطفل مع جاكسون في تقليد هيئته، بملابسه وتسريحة شعره، وحركاته الراقصة المصاحبة لأداء الأغاني، ويكذب على أبيه حين يشتري عملا جديدا لجاكسون، ويدعي أنه يريد المال للدروس الخاصة.
جنون الطفل بجاكسون أثمر مشاجرات في بعض الحفلات، ومواجهات مع أبيه، فكان اللجوء إلى خاله (الممثل محمود البزاوي) الذي نجح في اصطياده، وأقنعه بالابتعاد عن الحياة اللاهية لأبيه، فكان “المنقذ من الضلال”، في انتقالة درامية غير مبررة فنيا، فلا تكفي هذه المقدمات لتحوّل الطفل المسكون بمايكل جاكسون إلى متشدد يقسو على نفسه، ثم تلازمه هذه القسوة فتصير جزءا من حياته، ويفرض الحجاب على طفلته الصغيرة، وينهاها عن مشاهدة الأغاني الراقصة، وبالمصادفة يجد زوجة منقبة (الممثلة أمينة خليل) تنافسه في ما استقر عليه، ولا تتردد في إغرائه “شرعا”، بحجة أن “إرضاء” أهل بيته يضيف إلى رصيده من “الحسنات”، وتعلن له أنها تحبه بطريقتها الخاصة “أحبك لأني أعلم أنك تحب ربنا أكثر مما تحبني”.
انتصار اللاوعي
جاء موت مايكل جاكسون عام 2009 زلزالا في حياة الشاب، وفي السياق الدرامي المقنع كان يسهل تجاهله لموت جاكسون، كما نجا منه في حياته. ولا ندري لماذا كشفت الوفاة عن رسوخ جاكسون في لا وعي الشاب؟ المهم أن المخرج عمرو سلامة كتب فيلمه وأخرجه، ونحن شاهدنا ولنا أن نقتنع أو لا نقتنع كما جرى معي.
ظهر شبح جاكسون في مواقف لا تستدعي التهريج ولا تثير التعاطف، كأن يرى الشاب شبح جاكسون وهو يقف إماما، فيخطئ في قراءة القرآن، ثم ينقض بالضرب على من توهم أنه جاكسون.
وفي صلاة أخرى يراه في الصف الأول وهو يؤدي حركات راقصة بدلا من الركوع، فيصيبه التشوش، ويبحث عن فضاءات أخرى أبعد من المسجد، عن زميلة الدراسة ويسعى إلى لقائها والاستماع إليها وهي تعزف، وإلى الطبيبة النفسية التي تلقي عليه وعلينا دروس، عن عبء ماض مكبوت يثقل ذاكرته، وتطالبه بالتحرر منه ليصير أكثر خفة، وهي بالطبع لم تقل “أكثر خفة”.
يتجاهل الفيلم السياق الاجتماعي الذي يعيش فيه البطل، فلا يعرف المشاهد من يكون جيرانه أو زملاؤه؟ إذ لا نرى وجوها إلا لمصلين ينتظرون وصوله، ثم ينصتون إلى خطبه، ثم يعود إلى أبيه بعد خصام دام 15 عاما، في مشهد دال بدا فيه الأب القاسي هشا يبكي من التأثر، وتناوبا العتاب، وأسقطا الخصومات، وانتهى بالابن وقد صار كأنه أب لأبيه، يتباسط معه وينصحه بالتماسك؛ فالرجال لا يبكون. لقاء انتظره الأب منذ ترك له ابنه مدينة الإسكندرية واستقر في القاهرة.
وكما أهمل الفيلم تحوّل الصبي إلى متشدد فإنه لم يشر إلى حياته الأولى في القاهرة، وطبيعة عمل خاله، وكيف يتربحون من أشرطة الكاسيت. ولم يكن لقاؤه بأبيه كافيا لإقناعه وإقناعنا بالتصالح مع نفسه في المشهد الأخير، وقد استدعى موسيقى جاكسون ورقص بجلبابه الأبيض رقصة مشحونة بالرهافة الروحية، تسمو به لأبعد مما تمثله ثياب سجنته خمسة عشر عاما.
فيلم “شيخ جاكسون” الذي أخرجه عمرو سلامة وشاركه في كتابة السيناريو عمر خالد كان حدث افتتاح مهرجان الجونة السينمائي في دورته الأولى التي تختتم الجمعة 29 سبتمبر 2017.
ويتنافس في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة أعمال تمثل كلا من مصر والمغرب ولبنان وفرنسا وإيطاليا واليونان وروسيا وجورجيا وبريطانيا وفنلندا واليابان وبنغلاديش والبرازيل.