"شهيلي" حبيب العايب يصور مخاطر الاحتباس الحراري عبر السينما الوثائقية

كلما كثر الحديث عن موضوع بيئي سارع المخرج التونسي حبيب العايب إلى صناعة فيلم وثائقي عنه، يظهر الحقائق ويوضح خطورة ما يتعرض له الإنسان من خطط لاستمرار تبعيته وكيف تدفع دول الجنوب الثمن الأكبر. وهو في فيلم "شهيلي" يسلط الضوء على مخاطر الاحتباس الحراري والتغير المناخي على الزراعة والثروة البحرية.
تخصص التونسي حبيب العايب في الجغرافيا الاجتماعية، فاكتسب طوال تجربته الأكاديمية ولاء للطبيعة الأم وانتماء إليها مميزا دفعه إلى تركيز أبحاثه على المخاطر المحدقة بها، وتسخير قلمه وعدسة كاميرته لكشف التجاوزات الإنسانية في حق الثروات الطبيعية والمخاطر التي تهدد الشعوب في مختلف بقاع الأرض وفي مقدمتها شعب وطنه تونس وكل مناطق شمال أفريقيا.
وتتناول أفلامه الوثائقية المسائل المتعلقة بالسيادة الغذائية والبيئة وقضايا المزارعين وتغير المناخ والتهميش والفقر والتغير الاجتماعي ودور البيئة في تنمية الأمن الغذائي.
وهو في أحدث أفلامه الذي أطلق عليه عنوان “شهيلي” يدق ناقوس الخطر القادم ببطء وثبات جراء الاحتباس الحراري وتأثيرات ارتفاع درجات الحرارة على دول مختلفة من العالم، ويسلط الضوء على أسباب ذلك وتأثيراته الخطيرة على الأفراد والمجتمعات.
“شهيلي”، عتبة الفيلم الأولى، هو عنوان مقتبس من كلمة “شهيلي” الشهيرة في اللهجة التونسية، والتي تعني الحر الشديد الذي لا يملك الإنسان خلاله قوة إلا الاختباء في الظل وفي المنازل، ذلك القيض الذي يجفف الينابيع ويقتل النبات والحيوان ويهدد أي أرض يمر بها بالجفاف. وهو خير توصيف يمكن أن يعادل عبارة “الاحتباس الحراري” باللغة العربية ويمكن اعتماده لهذا الفيلم الذي يصور فيه العايب تأثيرات الارتفاع الكبير لدرجات الحرارة على قطاعات حيوية مختلفة.
وهذه المرة لم يشأ العايب أن يصور موضوعا “تونسيا” بامتياز، وإنما جال بكاميرته بين فرنسا وإيطاليا وتونس والمغرب، ليرصد تأثيرات الاحتباس الحراري (الشهيلي) ومعالجة الأبعاد المختلفة للتغير المناخي من موقف سياسي ملتزم بالعدالة المناخية والدعوة إلى ضرورة حماية الفئات السكانية الأكثر عرضة للخطر وحماية الحياة ومقاومة جميع أشكال الهيمنة والسياسات الاستعمارية ونظيرتها الاستعمارية الجديدة.
والفيلم عبارة عن سلسلة من اللقاءات والقصص -كما وضح المخرج في تدوينة له- كانت بدايتها مع مقابلة صورها المخرج مع مزارع من محافظة الكاف (شمال غرب تونس) يدعى محمد، ورث عن والده المنتحر مزرعة مساحتها 150 هكتارا ومعها ديونه الكثيرة و”التغير المناخي المستمر”، ليتحول إلى رجل يائس وضائع.
ويقول محمد “عندي 1400 شجرة زيتون ولا زيتونة واحدة هذا العام.. لا يوجد محصول حبوب لا في منزلي ولا في منازل الآخرين.. ومع ذلك، فإن الكاف منطقة حبوب لكنها دون أمطار”، مضيفا “في الكاف لا يوجد حصاد مضمون ولا يوجد مزارع في مأمن من الإفلاس أو حتى الانتحار”.
شهادة المزارع محمد هي واحدة من شهادات عديدة أخذها المخرج، ليؤكد أن ارتفاع درجات الحرارة وانحباس الأمطار يؤديان إلى تضرر الزراعات وتراجع المحاصيل، وهو ما يؤثر بشكل مباشر على الأمن الغذائي وما له من انعكاسات وخيمة على حياة الإنسان، وعلى السلطات التفكير في حلول جذرية وسريعة لهذه المشكلة.
وصور العايب وثائقي “شهيلي” في أربعة بلدان أبرز من خلالها المخرج تأثيرات التغيرات المناخية على عدة مناطق فيها وهي المغرب، حيث ركز على تضرر الزراعة في المملكة، وإيطاليا التي اهتم فيها بالصيد البحري والزراعة في أرياف إيطاليا، إلى جانب فرنسا التي صور فيها تلف كميات كبيرة من أشجار العنب وتراجع إنتاج النبيذ. أما بالنسبة إلى تونس فقد ركز على مسألة نقص الثروة السمكية في منطقتي بنزرت وجربة وتدهور حالة الأرض ومعاناة الماشية نتيجة لغياب العلف ونقص الماء في الشمال الغربي ومعاناة مزارعي التمور وخاصة “الدقلة” بسبب درجات الحرارة المرتفعة ما تسبب في تقليص إنتاجها وتضرر المزارعين.
كما تضمن الفيلم إشارة إلى أهمية الاحتكام إلى الموروث الثقافي الزراعي التونسي، والعودة إلى البذور والزراعات والطرق الزراعية التقليدية بعيدا عن تدخل الأيادي الأجنبية.
ووجه الفيلم دعوة مباشرة إلى ضرورة الانخراط في المقاومة البيئية وعدم الانخراط في السياسات “النيوليبرالية الخضراء” التي تسعى إلى طمس حقيقة تسبب دول الشمال في الضرر للدول النامية، والتي تريد تحويل السيطرة على الاقتصاد من الحكومة إلى القطاع الخاص بدعوى أن ذلك يزيد من كفاءة الحكومة ويحسن الحالة الاقتصادية للبلد.
وقال السينمائي التونسي عن “شهيلي” إن “الفيلم انطلق من فكرة التغيرات المناخية والبحث عن أسبابها؛ أي من المسؤول عنها ومن هم ضحاياها، من أجل وضع هذه المسألة في سياقها التاريخي والسياسي المحلي والقومي والعالمي”.
وشدد على أن أثر التغير المناخي لا يرى بالعين، ما يتطلب الدخول في تفاصيل غير مرئية بالضرورة منها حرارة مياه البحر وتفسير هذه الظاهرة وغيرها من المخلفات البيئية والاجتماعية.
وحول الهدف من إنجاز هذا العمل الذي استغرق سنتين من التحضير وشهرا ونصف الشهر من التصوير، أوضح المخرج أنه يسعى إلى إثارة النقاش حول هذه الظاهرة التي تمس الجميع في كل مكان وليس التونسيين فقط.
وبدأت ملامح التغيرات المناخية تظهر منذ الثورة الصناعية وطفرة المصانع التي تنبعث منها مواد مضرة بالطبيعة، استفادت منها الدول المتقدمة في حين كان التأثير السلبي الأكبر على البيئة والمناخ من نصيب دول الجنوب التي تعاني العديد من التحديات الحياتية الأخرى، كالفقر والبطالة، ليلتحق بها اليوم التصحر في بعض المناطق وتراجع الثروة السمكية والزراعية.
وحبيب العايب باحث يستغل السينما والتصوير للتوعية بقضايا بحثه بصفته مختصا في الجغرافيا الاجتماعية، وقد اشتغل كثيرا على الموارد الطبيعية الزراعية والريفية والفقر والتهميش والتغيرات المناخية والسيادة الغذائية وغيرها. وهو أيضا مؤسس ورئيس المرصد التونسي للسيادة الغذائية والبيئة. وترأس سابقا أيام السينما المتوسطية بشنني في مدينة قابس، وأخرج العديد من الأفلام الوثائقية ذات البعد التوعوي منها “ڤابس لاباس” و”فلاحين” (2014) و”كسكسي حبوب الكرامة” (2017) وفيلم “أم العيون” (2021).
العايب يمكن أن نصفه بأنه رجل تونسي جريء، يخوض في مواضيع بيئية ويحولها إلى مادة سينمائية تسلط الضوء على العلاقة الوثيقة بين السيادة البيئية والغذائية وألاعيب الساسة؛ فهو في فيلم “كسكسي حبوب الكرامة” مثلا، سلط الضوء على الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية لإنتاج الحبوب وصناعة الكسكسي التونسي الذي يعد وجبة رئيسية لسكان البلاد، متتبعا مراحل إنتاج الكسكسي في تونس منذ بدايته كبذرة، ومبيّنا ما يمكن لتجاهل السلطات وللتدخّل الصناعي أن يلحقا من ضرر بعملية الإنتاج وجودتها.
وبرهن عبر فيلمه الوثائقي على أن مسألة الغذاء هي في الواقع في جوهر قضية كرامة الإنسان الفردية والجماعية إضافة إلى مسألة السيادة والاستقلال الغذائي المحلي والوطني.
وضع العايب في هذا الفيلم إصبعه على التجاوزات الحاصلة في حق المزارعين والتي حولت تونس من “مطمورة روما” (اسم كان يطلق على تونس نظراً لما كانت توفره لروما من إمداداتٍ غذائيةٍ ومحاصيلَ زراعيةٍ) إلى أرض عاجزة عن تحقيق الاكتفاء الذاتي لشعبها الذي لا يتعدى 13 مليون نسمة، وكيف كانت تونس شبه مكتفية ذاتيا من الحبوب حتى بداية القرن العشرين، وأصبحت تستورد الآن أكثر من نصف احتياجاتها الغذائية، ما يزيد تبعيتها الغذائية من سنة إلى أخرى. كما ركز أيضا على أن الشعب التونسي أراد كرامة الغذاء ورفع شعارات عن السيادة الغذائية خلال ثورة 2011.
وإلى جانب هذا الفيلم أخرج العايب واحدا من أهم الأفلام الوثائقية، هو “أم العيون” الذي نسف من خلاله كل النظريات التي تقول إن تونس مهددة بالجفاف، والمنذرة بخطر العطش المحدق بالبلاد، حيث يوضح المخرج والباحث عبر الفيلم الوثائقي أن أزمة المياه في تونس لا تعود إلى شحّ الموارد وإنّما إلى سياسة توزيع غير عادلةٍ للماء من طرف الحكومات التي لا تحترم الحقّ الإنساني في الوصول إلى المياه.
هذا الفيلم استمد اسمه من العيون المنتشرة في ربوع تونس، ومن تسمية عدد من الجهات مثل “عين ميزاب” و”عين قصيبة” و”عين دراهم” و”العيون” وغيرها، وهي مناطق تنتشر فيها عيون الماء العذب، تستثمرها شركات خاصة في حين يعيش أهالي بعض تلك المناطق عطشا مزمنا.
كما أثار الفيلم نقاشا مهما حول أحقية انتفاع شركات المياه المعلبة الخاصة بالعيون المائية، والذي شهد طفرة كبيرة منذ 1989، السنة التي رفعت فيها الدولة يدها عن قطاع المياه المعدنية وفتحته أمام المستثمرين، الأمر الذي تصاعد أكثر منذ ثورة 2011، إلى جانب تراجع جودة المياه الموزعة عبر الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه (حكومية).
ويأتي فيلم “شهيلي” كمكمل لسلسلة الأفلام والدراسات واللقاءات التي يتحرك من خلالها الباحث التونسي لينذر بخطر التبعية الغذائية وتغيرات المناخ وتوظيف البيئة كسلاح حديث ضد الشعوب وفي الحرب بين دول الشمال والجنوب، ويأتي العمل أيضا ليثبت اسم حبيب العايب كأحد أهم المخرجين الذين يشتغلون على السينما الخضراء ويدافعون على البيئة.