شفافية سعودية مدروسة ترصد تغير أولويات نيوم

اتضحت الصورة وصارت مفهومة رغبة القيادة السعودية في توجيه الموارد المتاحة بطريقة مختلفة، إلا أن ما يهمنا هو الأسلوب الذي اتُّبِع في تمرير المراجعة والحرص على عدم إحداث ردود فعل كبيرة.
الاثنين 2024/07/15
التغيير أوسع وأكبر من نيوم

لا يحدث كل يوم أن يتم الإعلان عن مشروع ضخم تتجاوز كلفته تريليون دولار. لا يحدث أيضا أن تتم إعادة النظر في المشروع نفسه ويمرّ الخبر من دون لفت الأنظار. هذا ما حدث مع مشروع نيوم السعودي الاستثنائي.

ضع جانبا ارتباط مشروع نيوم برؤية 2030 السعودية. الرؤية، أي مشروع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لإحداث تغيير عميق في بلاده، أوسع وأكبر من نيوم. لا شك أن نيوم مبادرة عملاقة بالمعايير الاقتصادية من حيث حجم الإنفاق المتوقع على المشروع. لكنها تبقى بعيدة نسبيا عن موضوع التغيير الذي تسعى إليه السعودية.

لا نعرف على وجه الدقة عدد العاملين من المواطنين السعوديين في نيوم، لكن المشروع بالتأكيد استقطب أعدادا كبيرة من العمالة الوافدة على جميع المستويات، سواء كخبراء أو أي أيد عاملة تنفيذية أو شركات خبرة ومقاولات. بوضعه الحالي، وخصوصا أنه لا يزال في مراحله الأولية بحسب التقارير الإعلامية، لا يوجد ما يمنع من إعادة النظر في المشروع ليتناسب مع تغييرات كبيرة تحدث في العالم، لاسيما في مجال الاستثمارات والتمويل. السعودية بلد ثري بكل المعايير. لكن تريليون دولار، وهو كلفة المشروع المفترضة، يبقى مبلغا كبيرا خصوصا وأن المشروع لم يتمكن من استقطاب الكثير من الاستثمارات الأجنبية. صحيح أن الاستثمارات العالمية تتدفق على السعودية، لكنها استثمارات تذهب إلى الصناعات المرتبطة بالطاقة، خاصة في استخراج ونقل النفط والغاز، وتكرير المنتجات النفطية. هذه قطاعات مجربة، بما فيها المستجد منها والذي يتجه نحو التحديث وإدخال التقنيات المتطورة والبيئية. المستثمر القادم من الخارج قد يبادر في مراحل لاحقة إلى الاستثمار في مدينة مستقبلية مثل “ذا لاين”، ربما بعد أن يرى ملامحها وهل تتشكل بمال سعودي أم لا.

◄ لا شك أن السعودية مارست شفافية مدروسة بإيقاع ومواعيد وطريقة إعلام الآخرين بأن مشروع نيوم الآن مختلف بشكل كبير عمّا تم الإعلان عنه يوم انطلاقته، ولأسباب موضوعية ترتبط بما هو ممكن وما ليس ممكنا

من المفيد قراءة التوصيفات التي صاحبت التسريب الأخير عن تقليص ميزانية نيوم. فالخبراء الذين سألتهم وكالة بلومبيرغ عن تقييمهم لإجراءات التقليص، أشادوا بالقرار. لم يتردد أحد المعلقين في القول إن هذا التقليص هو علامة نضج. ففي كل المشاريع الكبرى التي تهدف إلى إحداث الفارق، ثمة نسبة من الاندفاع لدى القائمين عليها، خصوصا في المراحل الأولية. وبحكم حجم هذه المشاريع السوبر عملاقة يدخل فيها عامل الزمن بوضوح، إذ لا يمكن أن ترصد حتى السعودية، البلد السوبر ثري، تريليون دولار أو أكثر من أول يوم لانطلاقة المشروع. وبتحرّك المشروع مع مؤشر الزمن يبدأ القائمون عليه بملاحظة زيادة كلفته بحكم تذبذب أسعار المواد الأولية في البناء وكلفة اليد العاملة، ثم يلاحظون ضغطه على تمويل مشاريع أخرى في البلاد، كتلك التي تحتاجها الرياض ضمن خطة التطوير الأوسع في السعودية. من المبكر الحكم على حجم التقليصات، طالما السعودية لم تفصح رسميا عن مستوى إعادة النظر في حجم وتفاصيل المشروع. إلا أن الرقم المسرب هو تقليص بمقدار 20 في المئة، مع الإشارة إلى أن بعض عناصر المشروع قد تم تعليقها، وقد تكون صاحبة النسبة الأكبر في ضغط الإنفاق على المشروع، وهو ما يعني زيادة المراهنة على عناصر أخرى ستكون الأساس في قياس نجاح المشروع.

استخدم القائمون على المشروع بذكاء علاقة السعودية بوكالة بلومبيرغ الإخبارية لتمرير أنباء إعادة النظر في بعض (أو الكثير) من تفاصيل نيوم. كانت شركة سعودية على وشك توقيع عقد شراكة إعلامية مع بلومبيرغ قبل أن تقتصر هذه الشراكة على الجانب الاقتصادي من عمل الوكالة فيما صار يعرف بالشرق بلومبيرغ، وهو مشروع إعلامي موازٍ لمشروع فضائية وموقع الشرق السعودية. كانت تسوية مبتكرة للتعامل مع مؤسسة إعلامية أميركية ستأتي بكل معطياتها من حرية للرأي وإثارة لموضوعات شائكة عن المنطقة وعن علاقة السعودية بالعالم. أخذت السعودية ما تحتاجه من العلاقة مع بلومبيرغ، ولم تجد بلومبيرغ سببا لعدم العمل مع السعودية طالما اقتصر الأمر على الأخبار والتقارير الاقتصادية. ولد الحل الوسط المتمثل في الشرق بلومبيرغ.

لكن السعودية تغيرت سياسيا خلال السنوات الماضية وانكمشت بعيدا عن لعب دور كبير في المنطقة واتجهت إلى واحدة من أكبر عمليات تسوية الخلافات مع الآخرين في تاريخها. حلت الرياض مشاكلها مع إيران وتركيا وقطر، وتريد العمل على الانسحاب من حربها في اليمن من خلال الضغط على حلفائها في الشرعية للعثور على تسوية مع الحوثيين، ولا تريد دفع الأمور إلى حافة المواجهة في بعض تفاصيل اليمن خصوصا فيما يتعلق بالقوى السياسية المهمة في الجنوب. اليوم لا تعلق السعودية على ما يحدث في سوريا أو لبنان، وتكتفي بإشارات عامة عن ضرورة العثور على تسوية لحرب غزة تحقن الدماء من دون الدخول في أي تفصيل من تفاصيل ما بعد الحرب، بما في ذلك طبيعة التسوية الكبرى التي تشمل الاعتراف بحق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة بالتوازي مع حل عقدة التطبيع مع إسرائيل. الشيء نفسه يقال عن ابتعاد السعودية عن الشأن المصري، السياسي والاقتصادي، والشأن السوداني بما يتجاوز وساطة تركت من دون ضغوط على طرفي الحرب، الجيش والدعم السريع. ثمة أمثلة كثيرة أخرى لمثل هذه التسويات.

◄ صحيح أن السعودية بلد ثري بكل المعايير لكن تريليون دولار، وهو كلفة المشروع المفترضة، يبقى مبلغا كبيرا خصوصا وأن المشروع لم يتمكن من استقطاب الكثير من الاستثمارات الأجنبية

هذا الابتعاد فسر بأنه حاجة سعودية إلى الالتفات لمشاريعها الخاصة وتوجيه استثماراتها، والاستفادة من فورة العائدات الكبيرة التي صاحبت صعود أسعار الطاقة بعد اندلاع حرب أوكرانيا. السعودية، وفيما عدا الحديث بين حين وآخر عن موضوع التطبيع مع إسرائيل، أصبحت خبريا مصدرا لأنباء الصفقات والمشاريع والاستثمارات. حتى في هذا الجانب، أي التركيز على الاقتصاد، انحسرت تصريحات وزير الطاقة السعودي الأمير عبدالعزيز بن سلمان، واقتصر الأمر على بيانات بين حين وآخر تصدر عن كارتيل أوبك+ بخصوص حجم الإنتاج. بل إن كثيرا من الملاحظات التي تخص مسيرة الاقتصاد السعودي تركت لوزراء سعوديين من خارج دائرة الحكم يتحدثون عنها في منتديات وندوات اقتصادية معد لها سلفا.

في هذا السياق مرت التعليقات التي تمهد لتقليص حجم نيوم. احتكرت بلومبيرغ تقريبا التسريبات من مسؤولين أو معلقين سعوديين لم تفصح عن أسمائهم، ليعود وزير المالية السعودي محمد الجدعان أو من هم بمرتبته أو بعض رؤساء الشركات الكبرى ذات العلاقة، بين حين وآخر، إلى تأكيد حرص السعودية على إجراء مراجعات دورية لمشاريعها أسوة بكل الدول. ثم نعود إلى دورة أخرى من التسريبات، مع تفاصيل أكثر، وصولا إلى يومنا هذا والحديث عن تقليص بنسبة 20 في المئة في حجم نيوم، بين إعادة نظر في تفاصيل مهمة في المشروع أو تعليق لبعض مفرداته بالكامل.

الآن اتضحت الصورة أكثر، وصارت مفهومة رغبة القيادة السعودية في توجيه الموارد المتاحة لديها بطريقة مختلفة بعض الشيء. إلا أن ما يهمنا هنا هو الأسلوب الذي اتُّبِع في تمرير المراجعة والحرص على عدم إحداث ردود فعل كبيرة، سواء داخلية أو إقليمية أو عالمية، سياسية أو اقتصادية. هذه خطوة مهمة في إتقان طريقة تقديم الأنباء بعيدة كل البعد عما شهدناه قبل سنوات من حرص على لفت الأنظار إلى أن تغييرا كبيرا يحدث في السعودية المحافظة. هذا أيضا ينضاف إلى فئة الإشادة بالنضج.

امتحان تقييم ماذا تحقق وما لم يتحقق من رؤية 2030 ليس ببعيد. لا شك أن السعودية مارست شفافية مدروسة بإيقاع ومواعيد وطريقة إعلام الآخرين بأن مشروع نيوم الآن مختلف بشكل كبير عمّا تم الإعلان عنه يوم انطلاقته، ولأسباب موضوعية ترتبط بما هو ممكن وما ليس ممكنا ماليا واستثماريا. هذه الشفافية المدروسة مفيدة ومن الضروري أن تصبح هي الطريقة التي يتم فيها إعلام السعوديين والعالم بالتغيرات الكبرى في إدارة الشأن الاقتصادي في السعودية، طالما أن الرياض قررت النأي بنفسها عن السياسة.

9