"شعلة" ديودراما تستنكر التحرش في الجامعات التونسية

معالجة مسرحية لنموذج علاقة قهرية بين أستاذ وطالبته.
الاثنين 2023/11/13
صراع الأنا والآخر

تسعى الكثير من التجارب المسرحية التونسية وخاصة تلك التي تقودها مخرجات، إلى تسليط الضوء على قضايا مهمة تمس بنات جنسهن، من بينها التحرش الجنسي في الجامعات، والذي تتناوله هذه المرة المخرجة أمينة الدشراوي في ديودراما مقتبسة من نص مسرحي فرنسي.

رغم أن موضوع التحرش الجنسي لم يعد موضوعا مسكوتا عنه كما كان منذ عقود، بل تتطرق إليه وسائل الإعلام والفنون من فترة إلى أخرى، بحكايات وأرقام ومؤشرات صادمة، إلا أن المسرحية التونسية أمينة الدشراوي اختارت في عملها المسرحي الجديد أن "تثرثر" معنا لمدة ساعة من الزمن حول هذا الموضوع، "ثرثرة" مستوحاة من واحد من أشهر أعمال المسرحي الروماني - الفرنسي أوجين يونسكو.

و"الثرثرة" هنا لا يقصد بها الجوانب السلبية للبوح الإنساني الذي لا يجدي نفعا، وإنما هي كما كانت مع يونسكو، هي تلك الثرثرة التي تنجح في تعرية النواقص وكشف المخفي وتغيير الشعوب، وهي هنا “ثرثرة” مسرحية تسخر من المنظومة التعليمية في تونس ومن سلطة الأستاذ والعلاقات القهرية التي يمارسها المدرسون تجاه الطلبة وما يخفيه الحرم الجامعي من عنصرية وتمييز جهوي وصراع بين الأجيال واستغلال للنفوذ والكثير من السلوكيات التي تخلق للمجتمع أشباها ونسخا ومسوخا مدمغجة يختار أغلبها أن يكون وعاء لاستهلاك المواد التعليمية وإفراغها على ورقة الامتحان وخانعا لكل السلوكيات القهرية الممارسة ضده.

"شعلة" تعالج بقالب كوميدي طريف لكنه ذو رمزية لغوية شديدة العمق نموذجا لعلاقة قهرية بين أستاذ وطالبته
◙ "شعلة" تعالج بقالب كوميدي طريف لكنه ذو رمزية لغوية شديدة العمق نموذجا لعلاقة قهرية بين أستاذ وطالبته

أوجين يونسكو (1919-1994) هو مؤلف مسرحي يعد من أبرز مسرحيي مسرح اللامعقول، وبالإضافة إلى السخرية من عبثية أوضاع الحياة فإن مسرحيات يونسكو تصف وحدة الإنسان وانعدام الغاية في الوجود الإنساني.

اقتبست الدشراوي عملها الذي عنونته بـ”شعلة” من مسرحية "الدرس" التي تعالج بقالب كوميدي طريف لكنه ذو رمزية لغوية شديدة العمق، نموذجا لعلاقة قهرية بين أستاذ وطالبته، فالأستاذ المعتد كثيرا بما خزنه من معارف في الجغرافيا والتاريخ واللغات وعلم الاجتماع يعمد دائما إلى استصغار تلميذته وتحقير طريقة تحصيلها العلمي ومستواها الثقافي، وهو دائما يريد أن يملي عليها معارفها كأنها وحي منزل، كما يريدها أن تظل منصتة، مبديا انزعاجه كلما أبدت هي محاولة للفهم والتحليل، وسرعان ما يجهز عليها تجهيلا وتقزيما حين تبدأ هي في تقديم ما لديها. حتى يصل به جبروته إلى قتلها.

عائق اللغة

وفي حين كانت مسرحية الدرس والتي عُرضت للمرّة الأولى عام 1951، تدور بين الأستاذ والطالبة والخادمة، وفي منزل المعلم، اختارت المخرجة التونسية أن يقتصر عملها على الأستاذ وطالبته، وتحوله إلى ديودراما بطلتها "شعلة" (بفتح الشين)، طالبة في إحدى المؤسسات الجامعية التونسية، تواجه إشكال إخفاقها في مادّة علم الاجتماع مما يؤدّي إلى رسوبها. فتتوجه إلى مكتب الأستاذ في محاولة منها لفهم أسباب هذا الإخفاق. فيقدم لها اقتراح: النجاح في مادته مقابل مواعدته بصفة سرية. تثور الطالبة، وترفع ضدّه شكوى في تجاوزه للحدود ممّا يفقده منصبه ويؤدّي به إلى الانهيار.

المسرحية من تمثيل هيفاء الكامل ومنير الخزري، درماتورجيا وإخراج أمينة الدشراوي، سينوغرافيا علي يحياوي، توضيب عام عبدالله الشبلي. يقول يونسكو "إنني اكتشفت حقيقة مبادلاتنا اللغوية فيما كنت أتابع درس اللغة الإنجليزية، حيث بدا لي من الواضح أن ما من جملة وضعت لكي تلتقي حقا مع جملة أخرى".

اللغة التي وضعها الإنسان لتسهل عليه عملية التواصل مع الآخر، قد تصبح داخل الحرم الجامعي أو بين طيات الكتب والدراسات العلمية، شيفرات غامضة، تجعل من الصعب على الطالب فهم المادة، وفهم الأستاذ، وحتى فهم نفسه والحياة.

◙ المسرحية انبنت على متناقضات حولت الحكاية المسرحية إلى مساءلة للتحرش الجنسي في المؤسسات الجامعية

من هذه النقطة، ينطلق العمل المسرحي حيث تؤدّي مسألة سوء الفهم بالطالبة شعلة إلى الوقوع في فخ الابتزاز، وتجد نفسها في حوار محتد ومتصاعد يصل بها وبأستاذها أحيانا إلى مرحلة المناجاة، مناجاة تستنكر فيها الطالبة كل ما يمارس ضدها من تتفيه وعنصرية واحتقار وعنف معرفي ومادي، في حين يهين فيها الأستاذ السلطة ومناهجها التعليمية والأنظمة الداخلية للمؤسسات الجامعية، وغيرها من المواضيع الحرجة التي ستكون في الأخير سلاحا ضده.

ولأنه ركز على سوء الفهم اللغوي، جاء نص المسرحية مفعما بالرموز وبالمصطلحات الأكاديمية المعقدة، وبالمفاهيم المركبة التي عادة ما تسخدم في حقل علم الاجتماع، الذي يدور حوله نقاش الطالبة وأستاذها، وسبق أن قالت مخرجة العمل أنها عادت في الصياغة إلى العديد من الشهادات الحيّة لطالبات كنّ ضحايا تحرّش في شتّى أنحاء العالم، داعمين إيّاها بشهادات مصوّرة في الشريط الوثائقي “أرض الصّيد” لمخرجه كيربي ديك (2015)، في محاولة دراماتورجية لنصّ يحمل في طياته خطابا يدين الممارسات المشبوهة في الحرم الجامعي، الآن وهنا.

ومن حيث الأزياء، جاءت أزياء الممثلين مطابقة لشخصياتهم، بكل الإكسسوارات المصاحبة. كذلك الديكور، الذي كان يوحي بوضوح وصراحة بأننا أمام صالة مغلقة يوجد بها مكتبان وكرسيان وكمبيوتر وبعض الكراسات والكتب، ستدور حولهما كامل أحداث المسرحية، والتي دعمتها عناصر السينوغرافيا الأخرى من مؤثرات بصرية وصوتية، جعلت الفعل المسرحي "واقعيا"، أشبه بحدث يدور في رحاب الجامعة التونسية "الآن وهنا".

ثنائيات متضادة

ثنائيات متناقضة تؤثث لعمل خيالي
ثنائيات متناقضة تؤثث لعمل خيالي 

ترتكز المسرحية على جملة من التناقضات والثنائيات التي تتراوح بين الانسجام والصراع، وبين الضعف والقوة. ففي الجزء الأول كان الأستاذ في موضع قوة، يمارس سلطة "أبوية/ ذكورية" مزعومة، بالإضافة إلى سلطته الأكاديمية، في حين تبدو الطالبة في موضع ضعف، تفشل كل محاولاتها في إقناعه والتحاور معه والتعبير عن رأيها، أو حتى سرد وقائع من حياتها ومعاناتها العائلية. ثم تنقلب الأدوار، لتشتعل "شعلة" المنكسرة وتثور وتثأر لنفسها ولكل المظلومين الذين تحكّم أساتذة دغمائيون متحرشون في مستقبلهم التعليمي.

وانبنت المسرحية على ثنائيات أخرى، منها "العلم والجهل"، "الأمل واليأس"، "الخوف والشجاعة"، "الأخلاق واللاأخلاق"، "الانسحاب والمقاومة"، "الغباء والذكاء"، وغيرها من المتناقضات التي حولت الحكاية المسرحية إلى مساءلة للتحرش الجنسي في المؤسسات الجامعية وما يشوب العلاقة بين الطالب والأستاذ من التباسات أخلاقية وجنسانية.

◙ المسرحية ترتكز على جملة من التناقضات والثنائيات التي تتراوح بين الانسجام والصراع، وبين الضعف والقوة

وخلال هذا الصراع بين الأنا والآخر، تخاطب "شعلة" المجموعة، وتصرخ فيها طالبة يد العون "عاونوني". وكم من طالبة استنجدت بالمجموعة فخذلتها، ولم تثبت تعرضها للتحرش، في حين وقفت مجموعات أخرى إلى جانب فتيات كثر وكانت كاشفة للحقيقة، منددة بكل ما يدور بين أسوار الجامعات.

تنتهي مسرحية أمينة الدشراوي كما انتهى “الدرس” لدى يونسكو، بمقتل الطالبة على يد أستاذها، لكنها تقتل بعد أن تحولها الصدمة من فتاة فقيرة وخجولة وغير قادرة على فهم دروس علم الاجتماع، إلى فتاة ذكية وقوية وتدرك معنى كل كلمة وحرف تنطقه، وتصر على فضح أستاذها لدى الهيئة العلمية ليتم فصله، ويخضع لمحاكمة قضائية.

وتجدر الإشارة إلى أن تعريب مسرحية "الدرس" ليونسكو، أو "تونستها" ليس الأول من نوعه، بل سبق أن قدم المخرج التونسي غازي الزغباني في العام 2014 عملا ممثلا، حمل العنوان نفسه لمسرحية يوجين، لكن "الدرس" صالح لأن يعاد في شكل دروس، طالما أن مثل هذه الممارسات لم تنته من الجامعات التونسية، ولم تضع لها الدولة قوانين رادعة، ولا تزال هناك فتيات خانعات يفرطن في حقوقهن خوفا على سمعتهن ومستقبلهن الدراسي.

15