شحنة فيول تساعد كهرباء لبنان لكن لن تفسر ارتباك الحلول لدى الجزائر

المسؤولون الجزائريون يجدون أنفسهم أمام معضلة تسجيل الحضور بالحد الأدنى من المسؤولية. هذا لا يشمل الموقف من لبنان فقط بل يشمل الوضع بصفة عامة في الصراع الجاري بالشرق الأوسط.
الاثنين 2024/08/26
منحة الفيول لن تضيء لبنان ولن تنقذ الدبلوماسية الجزائرية

ثمة أكثر من تفسير لإقدام السلطات الجزائرية على تزويد لبنان بشحنة وقود الفيول المجانية. يمكن القول إن الجزائر، وبدافع إحساس تضامني مع شعب عربي شقيق، وجدت أن من المناسب عدم ترك اللبنانيين بلا كهرباء خصوصا في هذا الموسم القائظ. انقطعت الكهرباء في لبنان لأسباب مالية، والبلد ليس بغريب عن قطع الكهرباء. عجز لبنان عن توفير المال لشراء الوقود، فتوقفت محطة توليد الكهرباء. ثم هناك الموقف المركب المرتبط بالوضع المتوتر في المنطقة على خلفية التصعيد الإيراني – الإسرائيلي بعد اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران والقائد العسكري لحزب الله فؤاد شكر في الضاحية الجنوبيّة لبيروت، في عمليتين تعدان من نتائج حرب غزة. الجزائر كانت تريد أن تسجل حضورها في دعم حزب الله من دون أن تترك بصمة تلام عليها غربيا. صحيح أن توليد الطاقة الكهربائية في لبنان من مسؤوليات الحكومة، ولكن لا شيء يحدث هناك من دون أن تكون لحزب الله يد أو إصبع فيه. الحزب الذي سخّر إمكانيات كبيرة في لبنان لخدمة مشروعه والمشروع الإيراني، يدخل القرار الحكومي ويخرج منه حسب ما يناسبه وبالتوقيتات التي يراها تتوافق مع أجندة إيران السياسية في المنطقة. قطع الكهرباء في لبنان أكثر من عادي، لكن ما هو غير عادي أن تهب الجزائر فجأة لنجدة البلد. جهد مشكور، حتى لو لم يترافق مع طرح السؤال البسيط: أين كنتم خلال عقدين، أو يزيد، من قطع الكهرباء أو نقص الوقود في لبنان.

يجد المسؤولون الجزائريون أنفسهم أمام معضلة تسجيل الحضور بالحد الأدنى من المسؤولية. هذا لا يشمل الموقف من لبنان، بل يشمل الوضع بصفة عامة في الصراع الجاري بالشرق الأوسط. الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون ذكر في كلمة في تجمع انتخابي جرى مؤخرا أنه ينتظر من مصر فتح المجال للجيش الجزائري لدخول غزة وتشييد ثلاثة مستشفيات لمساعدة الفلسطينيين وتمكينهم من مواجهة الهجمات الإجرامية للجيش الإسرائيلي وإسعاف الجرحى من المدنيين الأبرياء. الإشارة الحماسية من قبل تبون، رغم عدم وضوح معناها ولماذا الجيش ولماذا ثلاثة مستشفيات، وجدت أيضا من يقتطعها من سياقها الحماسي ويجعلها إشارة إلى استعداد الجزائر لإرسال جيشها للدفاع عن الفلسطينيين، أو أن كلام تبون كان تلميحا لتخاذل مصر عن نصرة أهل غزة أو السماح للمساعدات بالمرور عن طريق بوابة رفح. ما لا غبار عليه هو تعاطف الجزائريين مع الفلسطينيين. أما كيف ولماذا تستفيد السلطات من مسألة الحرب في غزة لصالحها سياسيا، فهذا موضوع آخر.

◄ العالم تغير بشكل كبير ولم يعد من الوارد إرجاع الأمور إلى تفسيرات التآمر وتوجيه الاتهامات لإسرائيل ودول عربية متعاونة معها

المسؤول الجزائري الرفيع الذي توكل إليه مهمة التقييم الإستراتيجي لضخامة التغيرات في منطقة شمال أفريقيا والساحل لا شك سيجد الكثير من الصعوبات في تقديم التفسيرات أو الأفكار لصانع القرار، سواء أكان الرئيس تبون أم قادة الجيش ممن يمسكون بزمام الأمور في البلد. بدأت عهدة الرئيس تبون بعد أزمة عجز السلطة التي تجسدت بمرض سلفه الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة. جاء تبون وأمامه الافتراضات الإقليمية التقليدية، من احتكاك مستمر مع المغرب ودعم واضح لجبهة بوليساريو وهدوء وسكينة في العلاقة مع كبريات الدول الأوروبية، وبالخصوص فرنسا وإسبانيا، مع علاقات توحي بأنها إيجابية مع الولايات المتحدة خصوصا على قدر الاهتمام الأميركي بأمن جنوب أوروبا من خلال الإطلالة الأفريقية عبر قيادة أفريكوم. تغير الرئيس لكن جمود عقلية الحكم استمر. إلّا أن ما تغير أكثر هو الإقليم.

كل التغيرات التي حدثت في الإقليم تم تفسيرها من باب التآمر على الجزائر، حتى لو كان الأمر لا يتعدى حريق غابات في موسم حرائق صيفية يمتد على ضفتي البحر المتوسط، من أقصى الشرق في تركيا إلى المغرب (المتهم بإشعال أو إذكاء الحرائق). نظرية المؤامرة جعلت الجزائريين يغفلون مثلا عن ملاحظة أهمية عودة المغرب إلى الاتحاد الأفريقي وأن يرصدوا حجم النشاط السياسي والدبلوماسي والتعاون الأمني والاستخباري للرباط في أفريقيا وأوروبا. عندما بدأت حلقة الاعتراف بمغربية الصحراء وتأكيد مسعى الحل من خلال مبدأ الحكم الذاتي لمنطقة الصحراء، من واشنطن أولا ثم استمر الأمر ليصل إلى قرارات من أهم الدول الأوروبية بالأخذ بالموقف الأميركي، بل وصاحب ذلك فتح قنصليات في الداخلة، تم نسيان سنوات من الحركة الدبلوماسية المغربية واستسلم التبرير الجزائري لتفسير ساذج ربط الأمر بمسألة الاعتراف المغربي بإسرائيل. وفقا لهذا التمشّي لا يوجد ما يشغل واشنطن وباريس ومدريد غير التآمر على الجزائر لصالح إسرائيل والمغرب.

ثم جاءت الصدمة الثانية عبر هزات متتالية أعقبت سقوط أنظمة الحكم في أكثر من بلد أفريقي من منطقة الساحل وتسلم قيادات عسكرية السلطة فيها. لعل ما حدث مثير للارتباك إذا أخذ في سياق المؤامرات، لأن الأمر يختلط بشدة فيمن يتآمر على من في المنطقة. هل المسألة تتعلق بنتائج عملية برخان الفرنسية الفاشلة ضد الإرهاب؟ هل هو الخروج الفرنسي من الساحل؟ ولكن فرنسا تنسق معنا وها هو قائد الجيش الجزائري كان هناك وسمع ما يسره من الفرنسيين. هل هي روسيا؟ هذه نفسها روسيا حليفتنا التي تقف بارجة لها في قاعدة عسكرية جزائرية، بينما تبدو قوات فاغنر مسؤولة عن إيصال العسكريين الأفارقة إلى الحكم بعد إزاحة الرؤساء المدنيين. ماذا تفعل الولايات المتحدة إذا وهي ترسل إلينا بين حين وآخر التطمينات على لسان كبار الجنرالات الأميركيين الزائرين ممن يتولون مهمة الإشراف على القوات الأميركية المؤطرة في أفريكوم؟ هل هي تركيا التي تقول لنا شيئا في الاجتماعات وتتحرك بما يخدم مصالحها من دون اهتمام بالمنطقة وأولوياتها؟ هل يقلد الأزواد منحى بوليساريو ويريدون تأسيس جمهورية طوارقية على حدود الجزائر الجنوبية ستجر المشاكل على الجزائر وعلى دول الإقليم الأخرى كما نبهت الجزائر نفسها عندما تحرك الجنرال خليفة حفتر إلى غدامس القريبة أكثر من اللازم من مدينة دبداب الجزائرية ذات الأغلبية الطوارقية؟

◄ كل التغيرات التي حدثت في الإقليم تم تفسيرها من باب التآمر على الجزائر، حتى لو كان الأمر لا يتعدى حريق غابات في موسم حرائق صيفية يمتد على ضفتي البحر المتوسط

من أيّ دولة تزعل الجزائر أو على من تلقي باللوم في هذا الوضع المضطرب؟ من المؤكد أن الرئيس تبون انتبه للأمر مبكرا. أجرى سلسلة تعيينات لسفراء بدرجات خاصة وسلمهم مهمة لملمة الملفات الإقليمية من خلال إحياء العلاقات الجزائرية التقليدية مع أفريقيا بالدرجة الأولى. ثم صار واضحا أن مصير منصب أي وزير جزائري للخارجية يرتبط بقدرته على التقليل من الخسائر الدبلوماسية المتعاقبة، وتم تغيير أكثر من وزير ومسؤول يرتبط بالعمل السياسي والدبلوماسي والإعلامي في البلاد. لكن النتيجة كانت متقاربة دائما: سلسلة الانتكاسات مستمرة. السبب بسيط ويكمن في أن العالم تغير بشكل كبير ولم يعد من الوارد إرجاع الأمور إلى تفسيرات التآمر وتوجيه الاتهامات لإسرائيل ودول عربية متعاونة معها. حتى ردود الفعل السياسية والدبلوماسية كانت مضطربة ومتباينة. فبنفس “الذنب” الأميركي، أي الاعتراف بمغربية الصحراء والقبول بمقترح الحكم الذاتي، تتم معاقبة فرنسا واستدعاء السفير بينما يترك الموقف الأميركي لنعمة النسيان. لم ينتبه الجزائريون إلى خطورة التلويح مثلا بالإجراءات الاقتصادية العقابية الكبيرة على مسألة حرق غابة لم يتم إثبات التهم فيها، تم إثرها تعطيل أنبوب الغاز المار عبر المغرب نحو إسبانيا. كيف يمكن لبلد مثل إيطاليا أن يثق باستقرار توريد الغاز إليه في مشاريع حالية أو مستقبلية من الجزائر، إذا كان لدى الجزائريين الاستعداد لأن يؤذوا أنفسهم، حتى قبل المغرب، حين يقطعون توريدات الغاز لإسبانيا ومعها مصدر دخل أساسي لبلاد قائمة على اقتصاد ريعي من مبيعات الغاز والنفط (أو ما تبقى من نفط).

المحلل الإستراتيجي الجزائري المكلف بتقديم الرأي للقيادة والجيش يمكن أن يؤيد قيام الجيش بمناورات واسعة في جنوب البلاد وشرقها وغربها للتأكيد على أن الجزائر ليست بصدد التفريط في أمنها أو أن تفسح المجال أمام حركة انفصالية من القبائل أو الطوارق لكي تجد الفرصة، وهو البلد الذي لا تزال ذكريات الحرب الأهلية ندية في ذاكرته. لكن القوة، أو استعراضها، قضية خطرة خصوصا عندما لا ترتبط بقراءة لحجم المتغيرات الإقليمية وطبيعتها. لا شك أن هذا المحلل سيوصي بإعادة النظر فيما تقوم عليه السياسة وأن البحث عن تفسير في نطاق المؤامرات لن يقود إلى حلول. بل لعله سينبه إلى أن الأخطر من كل هذا هو أن تسعى القيادة الجزائرية لأن تجد تبريرا مرتبطا بأزمة بعيدة عن أرض غزة أو حلولا في منحة فيول ترسل إلى لبنان سرعان ما تحرقها مراجل محطة الطاقة الكهربائية.

9