شباب فوضوي وآخر على المقاس

يمتدح جميع السياسيين الشباب ويسعون إلى جذبه ليكون في صفهم، ويقولون إنه عماد المستقبل ولا بد من تشريكه في مواقع متقدمة بالدولة وتدريبه على القيادة. لكنهم يتحدثون عن شباب افتراضي شبيه بالثلاثة الذين ليس لهم وجود؛ الغول والعنقاء والخل الودود، ويمكن إضافة نمط رابع هو الشباب نادر الوجود.
الشباب الذي يتحدث عنه السياسيون نمط لا يوجد سوى في الكتب القديمة، مطيع ومسالم ويرفع شعار "شبيك لبيك الشباب العاقل بين إيديك"، لكن الشباب في الواقع مختلف تماما، شباب ميال إلى الاشتباك مع الدولة ومسؤوليها، لا يرضيه ما تقوم به لفائدته ويراه استبلاها وضحكا على الذقون.
والسبب أن الدولة التي يحكمها الكبار تفكر في نفسها وبأدواتها القديمة، وتريد أن تخرج شبابا على مقاسها "ياكل القوت ويستنى الموت". ويقابلها الشباب، وأغلبه متعلم في مدارسها ومعاهدها وجامعاتها ومتشبع ببرامج تعليمها، بالرفض.
صحيح أنه لا يمتلك القدرة على مواجهتها، فهي تمتلك القوة الصلبة وهو لا يمتلك سوى جسمه الطري وصوته الندي، ولكنه يميل إلى تحديها بأشكال تنظيمية محدودة، وبوسائل اعتبارية مثل الغناء، وهنا يمكن أن نشير إلى توقيف طالبين جامعيين لأنهما رددا كلمات أغنية وليدة اللحظة تنقد رجال الأمن قبل أن يتم تدارك الأمر وإطلاق سراحهما لاعتبارات إنسانية راعت أنهما على أبواب امتحانات نهاية السنة الدراسية، وخشيت أن يحيد التعاطف الشعبي الواسع عن مساره وألا يؤول إلى ريع الدولة.
الأغاني الرافضة للدولة وسلطتها الرمزية هي الأداة الأولى لدى الشباب، وهذا يظهر في أغاني الراب، حيث نشطت الأغاني التي تواجه السلطة رأسا، من ذلك الأغاني التي ظهرت في الأيام الأخيرة من نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، ثم خلال مراحل فشل الثورة في تحقيق انتظارات الشباب واضطرار الآلاف منهم إلى الهروب بحرا نحو أوروبا.
وأكثر المناسبات التي تبرز فيها الأغاني الصدامية مقابلات كرة القدم، وخاصة لدى جمهور الفرق الكبرى، حيث يصعب على رجال الأمن أن يواجهوا الشعارات والأغاني التي تستهدفهم، وأحيانا يعيل الصبر وتنعدم الحيلة فيردون على عنف الخطاب بعنف مضاد بهدف السيطرة على الوضع.
لا يؤمن جمهور الكرة بالحلول الوسطى، وينجر انجرارا إلى مواقف عدائية حادة من دون أن تكون لها حسابات آنية واضحة عدا كراهية الدولة وأجهزتها. وحين لا يجد هذا الجمهور حيلة في التصعيد مع تلك الأجهزة يختلق صراعا داخليا بين مجموعاته، وأحيانا تحدث مواجهة بين جمهور الفريق الواحد، حيث تتعدد الأسماء والمسميات (إلتراس، كورفا، وينارز، دودجارز..)، ولا تعرف من مع هذا ومن ضده، وما سر الخلافات، وكيف يتم اختيار الأعضاء، ومن يضع الخطط ويطلق صفارة الإذن بالعنف.
تحتاج الدولة إلى فتح أذنيها جيدا لتسمع وتستوعب ثم تتحرك لتقترب من الشباب الموجود على الأرض بدلا من الشباب الافتراضي الذي تريده على مقاسها ومزاجها.