سُكّان الغد

حين تكون هناك، في الغد، سيكون هذا الحاضر قد مضى، وصار ذكريات ووثائقَ وصورا كأنها التقطت بالأبيض والأسود، ويكون ما حصل قد حصل.
الجمعة 2020/09/25
الشغف بالغد حرفةٌ عربية بامتياز

لا مفر ولا ملجأ من الواقع المتردّي إلا بالتفكير في المستقبل. الغدُ هو الوصفة الوحيدة التي بوسعها أن تكوي كل هذه الأعطاب. والغد ليس مفاجأة مغلقة، بل يمكن أن تقرأها إن شئت، إنما بلغة مختلفة عن لغة الماضي والراهن، وكما يقول أمير الشعراء أحمد شوقي بك “أَمسِ انقضى وَاليَومُ مَرقاةُ الغَدِ”.

وحين تكون هناك، في الغد، سيكون هذا الحاضر قد مضى، وصار ذكريات ووثائقَ وصورا كأنها التقطت بالأبيض والأسود، ويكون ما حصل قد حصل. ولن تتاح العودة لإصلاحه، وهذا شعور مريحٌ جداً، فلم لا تبدأه من الآن وصاعداً؟

وما دمنا في عالم الشعر، وهو خزانة العرب، وموسيقاهم وأكاديميتهم الحرة التي يدرسون فيها متى أحبوا، فلنقرأ ما كتب إيليا أبوماضي عن الغد “تأمّلتُ ماضينا المجيد الذي انقضى، فزلزلَ نفسي أنّه انهارَ وانهدّا. وكيف امّحت تلك الحضاراتُ كلّها، وصارت بلادٌ أنبتَتها لها لحدا، وصرنا على الدنيا عيالاَ وطالما، تعلَّم منا أهلُها البذلَ والرَّفدا. ونحنُ الإلى كان الحريرُ بُرودَهم، على حين كان الناسُ ملبسُهم جِلدا. إذا الأمسُ لم يرجِعْ فإنّ لنا غداً، نضيءُ به الدنيا ونملأها حَمدا”.

وهذا الأبوماضي اسمه إيليا. ودينه مسيحي، لكنه كان يتحدث عن الماضي العربي العريق والمشرّف بروح التفاؤل والاعتداد. بينما في أيامنا هذه، يظنّ البعض أنه من المعيب على المسيحي العربيّ أن يكون عربياً تماماً. بل يجب أن يلبس قبّعة الخواجة ويعوج لسانه بالعُجمة حتى نميّزه عن العربي المسلم. وفوق ذلك عليه أن يعتبر العرب غزاة قدموا من الصحراء واحتلوا أرضه، كما تريد الشراذم مما حملت الريحُ مع شوكها وزوابعها أن تقول لنا. وهذا في أحلام العصافير وحدها، حسب وصف الإمام علي بن أبي طالب.

الشغف بالغد حرفةٌ عربية بامتياز. ليس لأن هؤلاء عباقرة، بل لأنهم أتقنوا ما أعدتُ النصح به أعلاه؛ مواجهة الحاضر بقلب بارد والذهاب إلى المستقبل ذهنياً، مراتٍ بالتوكّل، ومرات بالأمل، ومرات بالوهم، لا فرق. وذلك العالم الإنشائي اللغوي الذي بناه العرب من حولهم ليس مجرّد صرح من الرمال، بل خيال لازم وضروري لتحمّل عبء الواقع وانحطاطه. وإلا انسد الأفق وضاقت الصدور. ولا أدّعي شيئاً لم أرصده في ثنايا الثقافة والعقل العربيين اللذين لم يتركا فرصة دون أن يبرهنا على تلك المعادلة فيها، وفي الشعر مرّة أخرى، يوصيك العملاق عمرو بن معدي كرب “إذا لم تستطعْ شيئاً فدَعْهُ، وجاوِزهُ إلى ما تستطيعُ”. وبذلك تمكّنوا من قهر “اليوم” والسكن في “الغد”. وكذلك نفعل الآن.

24