سيكولوجية الجماهير في الساحات تسقط السرديات الكبرى

حين يقع حدث ما يشكّل ظاهرة، وإن لم تكن جديدة كلّ الجدّة، إنما تتمايز في بعض عناصرها عمّا سبق له أن حدث في أوقات سابقة وأمكنة أخرى، يستدعي مقولات وتنظيرات لتوصيفه وفهمه، وربما للإضافة على ما سبق وقيل، أو التشكيك فيه لملء بعض الثغرات.
ولعلّ في تجمهر اللبنانيّين، بشعاراتهم غير المسبوقة، وبتعدّد مستوياتهم الثقافيّة والعمريّة، وتباين معتقداتهم الإيمانيّة وانتماءاتهم السياسيّة، يحضرنا غوستاف لوبون في كتابه الشهير “سيكولوجية الجماهير”، وقد أرسى قانونًا نفسيًّا للوحدة الذهنيّة عند الجماهير، بوصف الجمهور، من وجهة نظر نفسية، يمتلك خصائص جديدة مختلفة عن خصائص كل فرد يشكّل هذا التكتّل، لتصبح عواطف الوحدات المصغّرة وأفكارها موجّهة في الاتّجاه نفسه. حينذاك تتشكّل روح جماعيّة عابرة ومؤقّتة، لكنّها تتمتّع بخصائص متبلورة تمامًا. هذا التشكّل وصفه لوبون بالجمهور النفسي.
بالعودة إلى الانتفاضة اللبنانية المستمرّة منذ السابع عشر من الشهر الجاري، في وجه الانعطاب الاقتصادي المزمن، وسوء إدارة الأزمات، اجتمعت الفئات اللبنانيّة كافة، وقد وحّدها العنوان الاقتصادي المعيشي وهو ليس سوى مظهر من مظاهر الفساد السياسي، واللبنانيّون على دراية بذلك؛ فجاءت صرختهم، في مقاومة مدنيّة، تحت شعار مطلبي أساس وغير مسبوق: “كلّن-يعني–كلّن”، شعار يؤكّد الانتفاضة على روح القطيع لدى المتظاهرين من جهة، ويطرح علامة استفهام حول إمكان تبنّي توصيف لوبون للروح الجماعية بأنّها عابرة ومؤقتة.
انتفاضة شعب تعدّدي في وجه سلطة حاكمة، تعني أنّ الجماهير في الساحات غير متجانسة بتوصيف لوبون؛ وهي تتفرّع بدورها إلى مغفلة، كجماهير الشارع، وغير مغفلة، كهيئات المجتمع المدني. هذا الحراك الشعبي يحيلنا إلى ثورة الأرز عام 2005 في وجه الوصاية السورية إثر اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري، إنما خلق اصطفافًا آخر مؤيّدًا، أو “شاكرًا من أذلّ اللبنانيين”، فانقسمت الجماهير بين ساحتي “الشهداء” و”رياض الصلح” وفريقي 8 و14 آذار؛ ليعود الفرز بين الفئات ضمن الفريق الواحد بعد الإنجاز المتمثّل في إخراج لبنان من عهد الوصاية السورية.
ثمة من رأى أنه لا بد من وجود محرّكين للجماهير المعتصمة سلميًّا في الساحات، وإن عملوا في الخفاء، ينتفعون من سقوط من هم في السلطة، في إشارة إلى من أقصوا من الحكم أو التمثّل الفعلي فيه، وهم المعارضة السياسيّة. إنما نوعية الخطابات المندّدة برؤساء الأحزاب والتيّارات السياسيّة، وحجم الغضب المنفجر في وجه الجميع، يدحضان هذه المزاعم، وغايتها التغبير في الوجه النظيف لهذه الانتفاضة.
انعدام الثقة بمقولات السلطة، لدى الجمهور اللبناني المعتصم في الساحات، يؤكّد تفكّك المشروعية لخطابات كانت بالأمس القريب تقام باسمها المظاهرات، كما تؤشّر إلى فكّ الارتباط بين خطابات الصدق والعدالة وحكايات تاريخيّة كبرى لها سمة المركزيّة والمحوريّة والافتراضات المسبقة، لتحلّ مكانها النزعة التعدّديّة والبراغماتيّة. فالحراك المدني اللبناني يضمّ زمرًا من المحاربين القدامى والعسكريّين المتقاعدين، والأساتذة المتعاقدين معلّقي المصير، والجامعيين العاطلين عن العمل، وأصحاب المصالح والمؤسسات الصغيرة، وأمهات وآباء الشباب المهاجرين من ضيق الأفق في الوطن، والنساء المطالبات بحق إعطاء الجنسية اللبنانيّة لأبنائهم، وبحق الحضانة للأم، ومن شبّان وشابّات يطالبون بإقرار قانون الزواج المدني الاختياري، كما يضمّ فئات المحرومين والمهمّشين وذوي الاحتياجات الخاصة… تعبّر هذه الشرائح المجتمعيّة بغالبيتها عن مثقفين مستقلّين وبيئيين وحقوقيّين.
تعدّدت المطالب والأصوات، وقد انتظمت في تكتّل مؤقّت، تجمعه روح الرفض للواقع المأزوم، ولا ينوي أن يغدو حزبًا أو تيّارًا سياسيًّا أو يدّعي لنفسه نظامًا بديلًا، بل يكفيه أنّه بدأ بالتحلّل من منظومة سرديات شموليّة شكّلت ذهنيّة مجموعاته لزمن ليس بقصير.
يرى جان فرانسوا ليوتار أنّ أفضل طريقة لمقاومة هيمنة السرديات الكبرى المتّصفة بالتصوّرات الشموليّة للمجتمع والثقافة والتاريخ، تتمثّل في التوقّف عن الاعتقاد بها، وهي لا تعمل إلا من خلال الأفراد أنفسهم، وتعطيل الإيمان بها سوف يفقدها كل سلطاتها ويقوّض هيمنتها. وهذا تمامًا ما برز في الانتفاضة التي بدأت احتجاجًا على تعسّف الضرائب وسرعان ما ارتفعت نبرة الغضب لتكسر هيبة زعماء وقادة سياسيّين لم يكن يجرؤ أحد على المساس بصورتهم.
يتساءل المراقبون عن برنامج هذا الجمهور المنتفض، وعن رؤيته لما بعد سقوط الحكومة فيما لو حصل، أو تراجعها عن قراراتها، وآلية تغيير أدائها، في اتهام مباشر لغياب رؤية سياسيّة واضحة لهذا الحراك التعدّدي. إذ تبرز مع رفض الاحتكام إلى ما كان سائدًا من منظومة سياسية مرجعيّة أو سرديات معياريّة يستمدّ الأفراد منها أحكام القيمة، إشكالية المرجع في دولة تعطّلت معظم مؤسساتها بفعل الهيمنة السياسيّة والاستزلام ونظام المحسوبيّات، واستنسابيّة العمل بالقوانين.
فيرى ليوتار المؤمن بفلسفة الفعل الخالية من البعد التنظيري الشمولي الذي يميّز السرديات الكبرى، ضرورة التعامل مع الواقع ضمن اللحظة المعيشة، والحكم على كل حالة على حدة.
الحراك الشعبي اللبناني، بما أطلق على عمله تسمية مقاومة مدنيّة، يندرج في إطار مفهوم السردية الصغرى بحسب تعبير ليوتار الذي وسم العالم “بعصر الانفجار الاتّصالي عن بُعد”. وهو مجموع خطابات تشكّلت من هذه الفئات الغاضبة لتحقيق أهداف محدّدة تتّسم بطبيعة مرحليّة لا تحمل الطابع الشمولي، وإن كانت تبتغي في العمق تغييرا جذريًا في بنية النظام، بوصفه حلمًا يخرج اللبنانيين من انقسامهم الطائفيّ. هذا الحدث يتماهى مع أحداث عام 1968 في فرنسا حين تلاقت أصوات الطلاب الثائرين مع الحركة النسويّة والطبقة العاملة في مطلب الحريّات العامة وتغيير المناهج الدراسية وتعطيل الممارسات الرأسمالية للحكومة.. ولكلّ من هذه الحركات مرجعيّة فكريّة وثقافيّة مغايرة وقد كان التحالف فيما بينها راهنًا.
أظهرت الانتفاضة اللبنانيّة السلميّة، في ملاحظة لافتة، خروج جمهور المتظاهرين على توصيف الجمهور بأنه عبارة عن قطيع لا يستطيع الاستغناء عن سيّد، قائد بارع في خطبه، لا يفكّر إلّا بمصالحه الشخصيّة متستّرا بستار الجماعة التي يخاطب مشاعرها؛ فكان المنتفضون أسياد أنفسهم تقودهم فكرة الكرامة. وبيّنت أنّ المخزون المستقرّ للأفكار الدينيّة والثوابت السياسيّة بدأ ينفد ويتزعزع ليتسرّب منه ما استقرّ، وهذا خير ردّ على المشكّك في الروح النقديّة لديهم.
ولم يصمدوا في اعتصامهم في الساحات وقطعهم الطرقات إلا باعتمادهم وسائل ضغط ناجعة، وهي ثلاث: التأكيد، والتكرار، والعدوى. “كلّن يعني كلّن” مطلب متكرّر ومؤكّد، يستعيد قول نابليون الذي اقتبسه لوبون إنّه لا يوجد إلا شكل واحد جادّ من أشكال البلاغة، هو التكرار. بحيث إنّ الشعار المؤكّد يتوصّل عن طريق التكرار إلى الرسوخ في النفوس فيُقبل كونه حقيقة برهانيّة وينتهي به الأمر إلى الانغراس في الزوايا العميقة للاوعي.