سيرة فكرية لصاحب الأيديولوجيا العربية المعاصرة

يعتبر عبدالله العروي، من مواليد أزمور في العام 1933، أبرز المفكرين المغاربة والعرب المعاصرين. ويتبوأ منزلة المؤسس لحراك فكري وثقافي امتد من المغرب إلى المشرق، ولم يتوقف تأثيره عند حدود الجامعات والمؤسسات العلمية، وإنما شمل مجالات الفكر السياسي العربي وطبع كثيرا من الممارسات الثقافية. وفي رصيد العروي من التأليف أكثر من ثلاثين كتابا بالعربية والفرنسية، في مجالات التاريخ والفلسفة والفكر العربي والرواية والسيرة الذاتية، ويعتبر كتاب سيرته الفكرية الجديد الذي ترجمه عبدالسلام بنعبدالعالي إطلالة هامة على عالمه.
في كتابه الأخير “بين الفلسفة والتاريخ” يحكي لنا المفكر المغربي عبدالله العروي سيرته الفكرية، مثلما قدم لنا من قبل سيرته الذهنية والمتخيلة، عبر أعماله الروائية، وكما دوّن خواطره ومشاهداته ويومياته في سلسلة “خواطر الصباح”، على مدى ثلاثة أجزاء.
أما الكتاب الجديد “الفلسفة والتاريخ”، فقد اختار مترجمه المفكر المغربي عبدالسلام بنعبدالعالي عنوان “بين الفلسفة والتاريخ”، حيث أضاف عبارة “بين”. في رأس الغلاف اسم المؤلف، وتحته اسم الكتاب، لِيُقرأ الكتاب، هكذا، كما تم تصميم غلافه “عبدالله العروي بين الفلسفة والتاريخ”. هنا حيث يروي الكتاب سيرة العروي ضمن هذه البينية في الكتابة والتفكير، والتي لا تتحقق إلا لذوي الثقافة الموسوعية والقراءات المتعددة والفكر النقدي الحر والخلاق.
في دراسات سابقة، يؤكد لنا بنعبدالعالي أن هذه البينية هي التي تحكم الكتابات المرجعية للمفكر الراحل عبدالكبير الخطيبي، وهي تحكم كتابات العروي من قبل، كما تحكم كتابات بنعبدالعالي نفسه. هكذا، ننتقل من بنية الكتابة، مع الموسوعي الآخر الراحل محمد عابد الجابري، نحو بينية الكتابة لدى آخرين، وفي طليعتهم العروي.
مدرسة التاريخ

الكتاب يروي سيرة عبدالله العروي بين الكتابة والتفكير والتي لا تتحقق إلا لذوي الثقافة الموسوعية والقراءات
حين يقدم لنا العروي سيرته الفكرية في هذا الكتاب، فهو يحكي سيرة واحد من أهم المشاريع الفكرية في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة، وهو مشروع “التحديث التاريخي”، كما يسميه صاحبه. مشروع يعتنق الحداثة سبيلا إلى استدراك تراجعنا التاريخي. والحال ههنا أن الحداثة لم تكن حداثة إلا لأنها تجاوزتنا، تاريخيا دائما. فنحن نوجد في علاقة بينية أيضا مع هذه الحداثة، على أساس أننا نمثل “اللاحداثة”، كما رصدها العروي من قبل في مقدمة كتابه “مفهوم العقل”، معتبرا أن ولوج الحداثة يقتضي منا أن نخرج من حالة “اللاحداثة” التي نعيشها.
انطلاقا من هذا الوعي التاريخي، ومن هذه “التاريخانية” على الأصح، والتي تنظر إلى التاريخ بوصفه معرفة عملية، بتحديد العروي، كان هذا الأخير المفكر العربي الاستثنائي الذي قدم إلى الفلسفة من حقل التاريخ، دون أن ينزل من قطار التاريخ أيضا، بل ظل يمضي بين بين، وبين ضفتين هما الفلسفة والتاريخ.
يقول العروي في مستهل الكتاب “الحقيقة أنني مشيت دوما على قدمين، التاريخ والفلسفة”، وذلك على غرار من جمعوا بين الفلسفة والتحليل النفسي، أو بين العلم والميتافيزيقا… من هنا، يعتبر المؤلف أن التاريخية بالنسبة إليه هي قدر وليست اختيارا. لأجل ذلك، كان العروي ينبذ الفلسفة باعتبارها دراسة من الدراسات، ولم يكن ليقتصر على النتيجة الأولية التي يقدمها البحث التاريخي. “كنت أتبين من ورائها أجوبة عن أسئلة من طبيعة فلسفية”، يقول المؤلف.
لكن هذا النزوح نحو الفلسفة لا يعني التخلي عن التاريخ دائما، على أساس أنه “ليس من السهل الإفلات من التاريخ”، بتوصيف العروي.
يرى الرجل أنه ربما كان أستاذا للفلسفة، كما كان أستاذا للتاريخ، مؤكدا أن الظروف التي عاشها كانت ستؤدي به إلى النتائج ذاتها حتى ولو درس الفلسفة بدل التاريخ والعلوم السياسية، مشددا على أن “المكان والظرف هما اللذان جعلا مني تاريخانيا، مثلما جعلا من سارتر وجوديا، ومن ألتوسير ماركسيا”.
وهكذا، كُتب لصاحبنا أن يكون تاريخانيا، وأن يجعل من التاريخانية سبيلا للمعرفة، هي التي علمته أن الإنسان ومنذ أن دخل التاريخ باعتباره حيوانا سياسيا، فإنه “أخذ يتتلمذ على مدرسة التاريخ، وليس على مدرسة الأخلاق ولا الديانة أو الفلسفة، اللهم إلا عندما كانت هذه تنزل إلى الأرض وتصبح تاريخانية”.
يحكي المفكر في فصل لاحق من الكتاب عن الإسلام كما عاشه وكما فهمه. في باريس 1970، سأل المستشرق النمساوي غوستاف فون غرونباوم العروي “ما الذي يمثله الإسلام بالنسبة إليك؟”، فأجاب من غير تردد “الصفاء والطهر”. كما ينحاز العروي للإسلام على أنه علم كلام وشريعة، مشيرا إلى أنه “معتزلي” من هذا الباب.
ولا يكاد يتخلى العروي عن مبدأ أساس يحكم نظرته إلى الإسلام، معتبرا أن “المبدأ الذي لا جدال فيه، في نظري، هو أن اعتناق الإسلام لم يكن ليعني بأيّ حال من الأحوال نسيانا للذات، وإنكارا للفرد، وتخليا طوعيا عن حرية الإرادة”.
ويقدم العروي لهذه الخلاصة بدءا بسيرة الطفولة، حيث فقد والدته في وقت مبكر، وأخذت مكانها جدته من والده، لكنها توفيت هي الأخرى، ولما يتجاوز صاحبنا الأحد عشر عاما. أما والده فكان يحدثه عن مسائل الدين باستمرار. وهنا، يقول العروي إن “الإسلام الذي تشربته، في غياب أمّ كان يمكنها أن تعيد التوازن، كان يخاطب عقلي أكثر مما يناشد قلبي”.
نيتشه فنانا
في مرحلة الثانوية كان العروي يتباهى بقراءة نيتشه وشوبنهاور، على حد اعترافه. هذان المفكران المنفلتان من عقلانية الفلسفة، واللذان ألهما أشهر الكتاب ذائعي الصيت في تلك المرحلة التي يتحدث عنها العروي، منتصف القرن الماضي، أمثال جان بول سارتر وأندري جيد وأندري مالرو. لكن، “ما الذي كان بود مراهق أن يدركه من مفهومات مثل الفعل المجاني والوهم الغنائي وجحيم الآخرين والعود الأبدي” يتساءل العروي. إلا أن ذلك كان هو المناخ الفكري للعصر في فرنسا ومحمياتها.
يحكي صاحب “الأيديولوجيا العربية المعاصرة” في هذه السيرة الفكرية أنه بخلاف زملائه في الدراسة، “الذين كانوا يتحمسون للأدب، بل ويحاولون نظم الشعر، فإنني كنت منجذبا نحو الفكر المجرد. بدا لي في ما بعد أن هذا الميل ربما كان بسبب نقص عاطفي”. أما عن نيتشه، فيقول العروي ما قاله سارتر عن ماركس، مؤكدا “قرأت نيتشه، فهمت كل شيء ولم أفهم شيئا”.
ويذهب العروي إلى أن نيتشه قد جعل من “الفلسفة فنا للعيش”، كما هو عنوان كتاب لبنعبدالعالي، مترجم هذا الكتاب. لكن العروي سوف ينتهي إلى أن نيتشه إنما يظل “فنانا”، كما هو حال من استلهموه. فإذا كان بالإمكان الحديث عن فلسفة عند أندريه جيد أو دوستيوفسكي، على نحو ما نتحدث عن فلسفة عند سارتر أو نيتشه، “فلأن هنالك تكافؤا بين الفلسفة والأدب والفن”.
ألم يقل العروي، وهو الروائي، إنه يكتب الرواية حين لا يستطيع أن يقول ما يريد قوله كمفكر ومؤرخ أيضا. لكن صاحبا يظل عقلانيا وديكارتيا بمعنى خاص، كما يرسم ذلك في الفصل الموالي من الكتاب، والذي خصصه لرينيه ديكارت، بعدما حصل في فترة التعليم الثانوي على جائزة للتفوق آخر السنة لم تكن سوى الأعمال الكاملة لهذا الفيلسوف الفرنسي، أبِ الفلسفة الحديثة.
تاريخ العروي
ظل العروي فيلسوفا عاشقا للتاريخ، ومؤرخا عاشقا للفلسفة أيضا. لكن، ماذا عن تاريخ العروي نفسه، وما هي مسارات ومنعطفات الرجل في رحلة البحث العلمي والجامعي؟
متأثرا بديكارت اختار الرجل في البداية أن يحصل على الباكالوريا في قسم العلوم التجريبية، حدث ذلك قبل أن ينعطف صوب دراسة التاريخ والفلسفة، وقبل أن يقرر التسجيل في المدرسة الوطنية للإدارة في باريس. عن هذا الاختيار حينها، يقول العروي “كنت أراني أعيش حياة مطمئنة لموظف سام للدولة، أحلم بأن أكتب رواية أو رسالة خلال العطل المتاحة، أو، بشكل مؤكد، بعد التقاعد”.
ويشهد العروي أن تاريخه الخاص مرتبط بالمكان والظرف، على حد قوله “لو أنني كنت قد ولدت في مدينة تطوان أو طنجة لكنت سأعيش في وسط مختلف، ولكان والدي سينتمي إلى طائفة دينية، ولكنت أنا قد فتحت عيني على إسلام آخر”. وحينها، كان العروي سيتابع دراسته بالعربية أولا، في جامعة مشرقية، غالبا. هنا يتساءل المفكر “هل كانت الفرصة ستتاح لي لمعرفة نزعة نيتشه الفردية المسعورة، ثم عقلانية ديكارت المسالمة؟”.
المفكر صاحب واحد من أهم المشاريع الفكرية في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة، وهو مشروع “التحديث التاريخي”
ولأن العروي كان ولا يزال يعتبر السياسة هي مواجهة الطبيعة، فقد اختار الالتحاق بمدرسة العلوم السياسية في باريس، والتي كانت تحمل اسم “المدرسة الحرة للعلوم السياسية”. وفي منتصف عام 1956، وهي السنة الأخيرة التي كان على العروي أن يقضيها في مدرسة العلوم السياسية، حصل المغرب على الاستقلال.
ويفضل العروي أن يستعمل عبارة “أُلغي نظام الحماية في المغرب”. ولهذا السبب، فقد أصبح العروي أجنبيا، وليس مواطنا في دولة مستعمرة لم تعد خاضعة لفرنسا. ولهذه الأسباب، لم يعد يحق له التباري من أجل الالتحاق بالمدرسة الوطنية للإدارة. وها هو الشك الديكارتي يلاحق العروي ويداخله حول مصيره البحثي والجامعي.
هنا، فضل مفكرنا متابعة الدروس في التاريخ في جامعة السوربون. انشغل العروي بالبحث في تاريخ الدولة الحديثة، في أرقى جامعة بفرنسا الأنوار. حدث ذلك في الفترة التي حصل فيها المغرب وباقي الدول العربية على الاستقلال. لحظة تاريخية حدية ومفصلية تفسر لنا “تاريخانية العروي” إن صحّت العبارة، مثلما تفسر لنا أسرار اختياره للقضايا الكبرى التي ناقشها في أعماله المرجعية والمؤسِّسة لثقافتنا المعاصرة، من “الأيديولوجيا العربية المعاصرة” إلى “العرب والفكر التاريخي” إلى كتاب “ثقافتنا في ضوء التاريخ”، ثم سلسلة المفاهيم، ثم كتاب “السنة والإصلاح”، وسواها من الدراسات التي كتبها العروي وهو يمشي على قدمين: التاريخ والفلسفة، رافعا رأسه للتفكير مليا في تاريخ العرب المقلوب الذي لا يزال يتجه من الحاضر نحو الماضي، ما دام يرفض إعمال العقل ويجحد قيم الحداثة التي تحض على المستقبل وتحرض على الجديد.