سيد زيان أضحك العالم ولم تضحك له الدنيا

السبت 2016/04/16
كوميديان بارع سار على درب سابقيه من بؤساء العالم

القاهرة - “تضحك ويضحك العالم معك لكن عندما تبكي فإنك تبكى بمفردك” حكمة إنكليزية قديمة تصف حياة الإنسان بصراحة تعادل في قسوتها واقعيتها. كذلك جزمت بعض الدراسات أن نجوم الكوميديا الذين يملكون قدرة عالية على الإضحاك أكثر عرضة للموت في سنّ مبكرة من غيرهم، لأن الكثيرين منهم يعيشون حياة حافلة بالأمراض النفسية والاكتئاب.

وفي دراسة أسترالية أجريت عقب انتحار الممثل الكوميدي الأميركي روبين ويليامز قبل فترة، تأكد أن الفكاهة تمثل خطورة على الصحة، وكلما كان نجم الكوميديا مضحكا أكثر، كان أكثر عرضة للوفاة في سنّ مبكرة.

وفي الغالب لم يسمع فنان الكوميديا المصري سيد زيان الذي رحل قبل أيام عن الحكمة ولا تلك الدراسات الاجتماعية، رغم أنها قدمت أفضل وصف مختصر لحياته وحياة العديد من أشهر فناني الكوميديا في مصر تحديدا.

سيد زيان عاش مثل الكثير من فناني الكوميديا المشاهير حياة مزدوجة، واحدة براقة لامعة تفيض سعادة وضحكا على خشبة المسرح أو أمام كاميرات السينما والتلفزيون، وحياة أخرى تفيض بؤسا وتعاسة خلف الأضواء، انتهت بالنسبة إليه بالوصول إلى ذروة التعاسة قبل 13 عاما حينما أصيب بجلطة في المخ تركت له ذكرى عبارة عن شلل نصفي اضطره للابتعاد عن الحياة الفنية، والتفرغ لتأمل أحداث حياته الماضية.

سيد زيان هاملت وعطيل

بدأ زيان المولود في أغسطس عام 1943 حياته الفنية في ستينات القرن الماضي، من خلال فرقة المسرح العسكري التي تكوّنت في ذلك الوقت للترفيه عن الجنود، وكان معه في نفس الفرقة فنانان كوميديان شهيران، هما الراحل حسن عابدين وحسن حسني.

من المفارقات أنه تشارك مع كل منهما مأساة منفردة، حيث عانى عابدين من مرض سرطان الدم لفترة قبل وفاته عام 1989، مثلما عانى زيان من الشلل لأعوام طويلة قبل وفاته. كذلك تشارك زيان وحسني في محنة الفقدان، لأن زيان فقد ابنه أيمن عام 2001 وهو واحد من 6 أولاد أنجبهم الفنان الراحل، مثلما فقد حسن حسني ابنته فاطمة متأثرة بمرض السرطان.

رغم أن سيد زيان اكتسب شهرته الفنية من أدواره وقدراته الكوميدية الفذة التي ميزته وسط فناني جيله، لكن الحقيقة أنه بدأ حياته الفنية ممثلا تراجيديا، حيث جسد خلال عمله في المسرح العسكري العديد من مآسي شخصيات شكسبير الشهيرة، في مسرحيات مثل هاملت وعطيل وغيرهما.

صحيح أن حياة كل إنسان مكتوبة عليه، لكن توالي النكبات على الراحل زيان في السنوات التالية لاحترافه الكوميديا، دفعته للاعتقاد بأنه كان يرحّب بتقديم المآسي على المسرح فقط، بدلا من أن يعيشها شخصيا.

ليس من المصادفة أن تنتهي حياة أغلب فناني الكوميديا البارزين في تاريخ الفن، بشكل مأساوي، لكن المقارنة التي تستدعي التوقف أكثر من غيرها هي التي جمعت زيان مع أحد أبرز فناني الكوميديا المعاصرين له وهو الفنان الراحل وحيد سيف.

كلاهما بدأ حياته بعيدا عن الفن، حيث حصل زيان على دبلوم فني في الطيران وعمل لفترة في القوات الجوية المصرية، قبل أن يلتحق بالمسرح العسكري الذي كان نقطة تحوّل مهمة في حياته، كذلك درس وحيد سيف في كلية الآداب.

سيد زيان اكتسب شهرته الفنية من أدواره وقدراته الكوميدية الفذة

كل من زيان وسيف أيضا بدأ حياته الفنية في تقديم أدوار جادة وتراجيدية، قبل أن يأتي من يحوّل مساريهما للتخصص في الكوميديا، وهنا يدين زيان بهذا الفضل إلى زميله الفنان عبدالغني ناصر.

مسرح الحياة

ويتشارك زيان وسيف في أمر ثالث هو قلة حظّهما الفني، فرغم أن كليهما قدم عشرات الأعمال، ما بين المسرح والتلفزيون والسينما، وترك بصمة في كل دور قدمه على مدى مشواره الفني، غير أن أيا منهما لم ينل ما يستحقه من شهرة ونجومية، وضلت أدوار البطولة طريقها عن كل منهما تقريبا، واكتفيا بدور “السنيد” أو الرجل الثاني في أيّ عمل.

الإخفاق في الحياة الشخصية هو القاسم المشترك الرابع بين الفنانين، حيث تزوج وحيد 3 مرات بحثا عن السعادة دون أن يجدها، بينما تزوج زيان مرتين دون تفاصيل كثيرة عن الزيجتين.

وجاءت النهاية متشابهة بدرجة لافتة، حيث عانى سيف من أزمة صحية طويلة مع مضاعفات مرض السكري مثلما عانى زيان من تبعات جلطة في المخ داهمته، قبل أن يرحل الاثنان وحيدين بلا صديق سوى المرض والألم والحنين إلى الأيام الخوالي.

كان زيان يقضي أعوامه الأخيرة في مشاهدة أعماله المسرحية القديمة التي كانت الوحيدة التي تساعده على التخلص من آلامه النفسية، خاصة حينما يتذكر ما كان يدور وراء كواليس تلك الأعمال.

مع شويكار والمهندس

منذ ظهوره الأول في دور “زربيح” الشاب المتشرّد في مسرحية “سيدتي الجميلة” مع فؤاد المهندس وشويكار عام 1969، نجح سيد زيان في إظهار قدر هائل من المواهب الفنية المتعددة.

إلى جانب قدراته الكوميدية التي لا يختلف عليها أحد، تميز الراحل بصوت قويّ ومنغّم ساعده على أداء مواويل شعبية في العديد من المسرحيات، كما كان يجيد تقليد النجوم، والأداء التراجيدي فضلا عن الاستعراض، وقدم فوازير “الحلو ما يكملش” في رمضان عام 1997.

لكن على طريقة الحكمة العربية التي تقول إن “من كثر خطّابها بارت”، أي من أقبل عليها الشباب بكثرة لن تتزوج، دفع الفنان ثمن تعدد مواهبه وعدم التركيز على واحدة منها، بالبقاء بعيدا عن أدوار البطولة المطلقة خاصة في السينما والتلفزيون.

ورغم أنه قدم ما يقرب من 170 عملا طوال مشواره الفني، بين السينما والمسرح والتلفزيون، إلا أنه لم يحظ في أيّ منها بدور البطولة، لأسباب غير معروفة، خاصة أن العديدين ممن ظهروا في نفس التوقيت أصبحوا نجوم شباك.

البؤس هو القاسم المشترك بين أغلب نجوم الكوميديا

على رأس هؤلاء عادل إمام وسمير غانم ومحمد صبحي، بل إن بعض الفنانين الذين تبنّاهم زيان فنيا وقدمهم مثل محمد هنيدي تمكّن من بلوغ البطولة المطلقة التي بقيت لغزا مستعصيا في حياة زيان الفنية.

ربما جزء من أسباب استسلامه النمط الذي حصره فيه المخرجون، وهو أدوار الفهلوي والنصاب في السينما، مثل دوره “خليل الغبي” في فيلم “المتسول” مع عادل إمام، ودور “المستكاوي” في فيلم “البيه البواب” مع الراحل أحمد زكي.

لكن زيان وجد بعض العزاء الفني لنفسه في المسرح، وحصل على بطولة عدد من المسرحيات الكوميدية في حقبتي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، أشهرها “الفهلوي” و”العسكري الأخضر” و”واحد ليمون والتاني مجنون”.

الراية البيضاء

لم يترك النجم الراحل باب الكوميديا محرّكاً أساسياً في طريق موهبته، فوجدناه كثيرا يفاجئنا بأدواره التي تنوّعت بين الدراما والشرّ، ولعلّ أشهرها دور الانتهازي سارق الأموال الذي قدّمه مع الراحل أحمد زكي في فيلمه “البيه البواب”. وكان دوره الرائع في مسلسل “الرايا البيضاء” أمام الممثلة القديرة الراحلة سناء جميل، نقطة تحوّل كبيرة، حيث قدّم شخصية “النونو الساذج” وهي واحدة من أشهر شخصيّاته على مدار رحلته الفنية.

تحوّل هذا الدور إلى سبب في انطلاقه لاحقا، فمن دور الصبي التابع للمعلمة المتسلطة “فضة المعداوي” في “الراية البيضا” التي تريد الاستيلاء على فيلا تاريخية لأحد السفراء السابقين إلى الثوري المنخرط في صفوف المعارضة القوية لها، ومع الذين يقفون أمامها خلال اقتحامها للفيلا بالبلدوزر لهدمه، في رمزية لا تخلو من دلالات سياسية.

من هنا بدأ الراحل انطلاقة جديدة في مشواره التلفزيوني، وجسّد دوراً يقترب من المهمشين في المجتمع عندما قدّم شخصية “القص” في مسلسل “المال والبنون”، أي الرجل الفقير الذي يسعى للحصول على مكان للسكن فيه، أو ذلك الرجل الذي يطارد إحدى التوأمين الجميلتين للزّواج منها بل إنه كان يدبّر لها المكائد.

الإعلام والحياة الخاصة

الحياة الخاصة للفنان سيد زيان لم تكن سعيدة كما تبين الكثير من الشواهد والمؤشرات، ورغم زواجه مرتين من خارج الوسط الفني وبقاء حياته بأكملها بعيدا عن عيون الإعلام، إلا أن ما تسرب عن حياته لم يكن سارا. فإلى جانب أزمته الصحية العنيفة التي أبقته طريح الفراش طوال ما يقرب من 13 عاما، عانى زيان محنة مزدوجة تمثلت بفقدان الابن ومواجهة فضيحة إعلامية بسبب الطريقة التي مات بها.

جزء أساسي من أسباب استسلامه للنمط الذي حصره فيه المخرجون، هو لعبه أدوار الفهلوي والنصاب في السينما

بعد ذلك وفي بداية مرضه، واجه سيد زيان محنة جديدة بأخبار نشرها الإعلام عن خلاف أولاده حول ممتلكاته وأمواله، للدرجة التي دفعتهم لمقاضاة بعضهم البعض في المحاكم غير عابئين بتبعات ذلك على معنويات الأب المريض كما كتبت الصحافة. وهو ما تسبب في المزيد من تدهور حالته الصحية في ذلك الوقت من عام 2005، في وقت كانت علامات التعافي قد بدأت في الظهور عليه.

لكن زيان تلقّى تعويضا متأخرا عن شقائه، ببقاء ابنته إيمان معه وعدم زواجها، حتى تتفرغ لرعايته في فترة مرضه. الأمر الذي عوضه نسبيا عن كل معاناته مع أسرته في السابق.

محنة أهل الكوميديا

إلى جانب المعاناة المتعددة التي واجهها الفنان سيد زيان في حياته، كان البؤس هو القاسم المشترك بين أغلب نجوم الكوميديا، لا سيما القدامى، بداية من الفنان علي الكسار الذي عانى من الفقر والجحود في أعوامه الأخيرة. فبعد أن كان في بؤرة الضوء كأول فنان كوميدي يحصل على بطولة سينمائية كاملة، تبدلت الأيام ولم يجد الكسار ما يكفل به أسرته، ولا نفقات علاجه لدرجة أنه لفظ أنفاسه الأخيرة فوق سرير متواضع في غرفة بالغة التواضع في مستشفى القصر العيني المجاني.

كذلك عانى إسماعيل يس، أشهر فناني الكوميديا في تاريخ السينما المصرية، من نهاية مؤسفة لحياته، بعدما تمّ الحجز على أمواله وممتلكاته، ليشتد عليه المرض ثم يرحل عن الدنيا متأثرا بأزمة قلبية حادة.

من جيل سيد زيان واجه الفنان يونس شلبي مصيرا مشابها بعد أن أصيب بمشاكل في قلبه استدعت إجراء عدة جراحات لتغيير الشرايين، ثم عانى من مرض سكري الدم ليتفاقم سوء حالته، ويموت متأثرا بأزمة نفسية حادة نتيجة الإهمال الذي وجده من زملاء الوسط الفني.

في الطابور نفسه عدد آخر من الفنانين مثل، المنتصر بالله وجورج سيدهم ومحمد أبوالحسن وغيرهم، ممن تفانوا في إضحاك الناس، ثم فوجئوا بالدنيا تضحك منهم، وعليهم مواجهة مصائرهم التعسة وحيدين بلا سند سوى حفنة ذكريات سعيدة، وتصفيق قادم من الماضي ليدوّي في آذانهم المكلومة.

13