سوريا ما بعد الأسد وإشكالية الاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط

كل الشواهد تؤكد أن النظام الإيراني يعيش حالة فوضى حقيقية وتضاربا في الأولويات وتراجع تأثير الحرس الثوري على السياسة الخارجية ورغبة لمن يستعد لتولي الحكم في مرحلة ما بعد خامنئي.
الثلاثاء 2024/12/10
ليس لدى روسيا ما تقدمه لحليف الأمس

أكثر المتفائلين بنهاية النظام البعثي في سوريا بعد ثلاثة وخمسين سنة من الحكم الشمولي العسكري لعائلة الأسد في سوريا لم يتوقع هذه النهاية غير الدموية التي يمكن اعتبارها ما يشبه عملية تسليم سلطات صامتة بين قيادات رفيعة في النظام البعثي وقوات المعارضة السورية وفق توافقات إقليمية بضمانات دولية. أغلبنا كان يتوقع نهاية شبيهة بنهاية نظام القذافي في ليبيا أو صدام في العراق وحرب مدن وشوارع في سوريا، لكن انسحابات تكتيكية للجيش السوري من مدن إستراتيجية في محور حلب – دمشق ومحور درعا – دمشق تؤكد أننا أمام مسارين إستراتيجيين:

المسار الأول مرتبط بطبيعة النظام السوري الذي خاض حربًا أهلية طوال أربع عشرة سنة استنزفت مقدراته وقواه وحولت الجيش السوري إلى مجموعات قتالية غير متجانسة ودون هوية عسكرية أو عقيدة قتالية واضحة. فعمليات القتل والتهجير العرقي والبراميل المتفجرة والقصف الجوي للمدنيين هي أساليب أصبحت تطرح إشكالات أخلاقية في هياكل الجيش وقياداته التي كانت هي الأخرى تنتظر قرارًا بوقف هذه الحرب الوحشية وعدم التورط أكثر في سفك دماء الشعب السوري.

المسار الثاني مرتبط بقرار إقليمي ودولي على إخراج سوريا من معادلة الردع الإستراتيجي الإيراني لإسرائيل وإيقاف طريق الإسناد البري من طهران إلى الضاحية الجنوبية لبيروت عبر الأراضي السورية، ويفتح الطريق أمام ممر داوود ليعيد تشكيل التوازنات في المنطقة ويمهد لاتفاق إقليمي موسع ينهي الحرب في غزة والتي أصبحت هي الأخرى تطرح إشكالات أخلاقية حقيقية للضمير الإنساني العالمي بسبب الجرائم الفظيعة التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في حق المدنيين.

◄ سقوط النظام السوري في هذا التوقيت هو مؤشر على الضعف الكبير الذي يعيشه نظام الولي الفقيه في إيران نتيجة الضربات القاتلة التي وجهتها إسرائيل إلى أدواته في المنطقة

ملامح الاتفاق بين النظام السوري السابق وقوات المعارضة السورية الذي يبدو أنه تم وفق توافقات إقليمية وضمانات دولية من خلال تحليل الأحداث والشواهد المتاحة على قلتها تضمن ثلاثة شروط:

أولًا: الخروج الآمن لبشار الأسد وعائلته وهو ما تم بتأمين خروجه إلى موسكو حيث منح حق اللجوء.

ثانيًا: تسريح وتفكيك وحدات الجيش العربي السوري والتشكيلات العسكرية والأمنية المرتبطة به تمهيدًا لسيطرة العناصر المسلحة في المعارضة السورية على الوضع العسكري والأمني في سوريا.

ثالثًا: استمرار الحكومة السورية في أداء مهامها الوظيفية تجنبًا لفراغ سياسي قد ينتهي بفوضى لا تحبذها مختلف الأطراف داخليًا وخارجيًا قد تتحول إلى حرب أهلية ثانية في سوريا.

الأكيد أن إسقاط النظام في دمشق وهذه التفاهمات هي جزء من عملية تقليم أظافر نظام الولي الفقيه في طهران الذي حول منطقة الشرق الأوسط إلى فضاء مفتوح لمواجهات تكتيكية بين الحرس الثوري الإيراني مع مختلف دول المنطقة والقوى الفاعلة فيها لتنزيل مخطط توسعي يستهدف تقسيم المنطقة والسيطرة على مقدراتها خدمة للمشروع التوسعي الإيراني والذي نجح فيه مرحليًا طوال سنوات الفوضى الخلاقة التي أنتجها الخريف العربي بتداعياته الإقليمية والجيوسياسية.

سقوط النظام السوري في هذا التوقيت هو مؤشر على الضعف الكبير الذي يعيشه نظام الولي الفقيه في إيران نتيجة الضربات القاتلة التي وجهتها إسرائيل على أدواته في المنطقة سواء عملية تحييد حسن نصرالله وكامل الهيكل القيادي العسكري لحزب الله أو سلسلة الاغتيالات التي تمت في العمق الإستراتيجي للنظام الإيراني داخل العاصمة طهران واستهدفت قيادات رفيعة في حماس بالإضافة إلى السقوط الغامض لطائرة الرئيس السابق لإيران إبراهيم رئيسي. كل الشواهد تؤكد أن النظام الإيراني يعيش في ظل فوضى حقيقية وتضارب كبير في الأولويات بالنسبة إلى أجنحة النظام وتراجع تأثير الحرس الثوري على السياسة الخارجية الإيرانية ورغبة كبيرة لمن يستعد لتولي حكم إيران في مرحلة ما بعد خامنئي على تطبيع كامل لعلاقات إيران مع محيطها الإقليمي.

◄ عمليات القتل والتهجير العرقي والبراميل المتفجرة والقصف الجوي للمدنيين هي أساليب أصبحت تطرح إشكالات أخلاقية في هياكل الجيش وقياداته التي كانت هي الأخرى تنتظر قرارًا بوقف هذه الحرب الوحشية

يمكن فهم تخلي الحليف الروسي عن بشار الأسد في ظل التطورات الميدانية في أوكرانيا، لكن هذا لا يعني التخلي عن التموقع الجيوسياسي الروسي في القواعد الروسية على الساحل السوري على المستوى القريب والمتوسط. فالتواجد العسكري الأجنبي في سوريا هو الآخر يعتبر من الإشكالات التي لم تتضح طبيعة التفاهمات والتوافقات بين مختلف الفواعل الإقليمية حولها. فإيران لديها 52 قاعدة عسكرية، إلى جانب 477 نقطة عسكرية، وتركيا تسيطر على 8000 كيلومتر مربع من الأراضي السورية بالإضافة إلى المواقع العسكرية التركية في سوريا البالغ عددها 12 قاعدة و114 نقطة.

وروسيا تسيطر على 21 قاعدة و93 نقطة عسكرية. والتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لديه 17 قاعدة و15 نقطة عسكرية.

الوجود العسكري في سوريا يعكس تداخل مصالح دولية متعددة، حيث تسعى الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب واحتواء النفوذ الإيراني، بينما روسيا كانت تدعم نظام بشار الأسد لتعزيز نفوذها الإستراتيجي. من جهة أخرى، تسعى تركيا إلى تأمين حدودها ومنع تشكيل كيان كردي يهدد سيادة ووحدة الأراضي التركية، بينما تعمل إيران على تعزيز وجودها عبر دعم حلفائها. كما تلعب دول الخليج دورًا في مواجهة النفوذ الإيراني، مما يجعل تغييرات الحدود والسيطرة مرهونة بالقرارات العسكرية لهذه القوى. وفي ظل هذه الديناميكيات، يبدو أن حالة التهدئة وتجميد خطوط التماس في ظل غياب اتفاق إقليمي واضح لن تستمر لفترة طويلة، دون مؤشرات على تغييرات جذرية في المستقبل القريب.

المشهد السوري ما بعد الأسد معقد والوضع السياسي والعسكري فيه الكثير من الفراغات، وعملية التغيير اليوم يقودها أبومحمد الجولاني كرجل له ماضٍ مرتبط بالإرهاب بقتاله إلى جانب تنظيم القاعدة وباقي تنظيمات التطرف في سوريا. المعارضة السورية اليوم تعيش في ظل غياب وضوح أيديولوجي يؤطر عملية التغيير، كما أن التوافقات الهشة الحالية في ظل التعارض الفكري والسياسي بين مختلف القوى الفاعلة على الأرض في غياب قرار توافقي إقليمي ودولي واضح لبناء حكومة سورية موحدة ينذر بحرب أهلية قد يدفع ثمنها الشعب السوري وحده.

 

اقرأ أيضا:

       • أحمد الشرع رئيسًا لسوريا.. لمَ لا!

8