سلاما أيها الرسامون

الرسام الحقيقي يتيح لك فرصة لتعلم طريقة أخاذة في التفكير في العالم والحياة معا كما لو أنهما موضوعان جاهزان في كل لحظة للتصوير.
الاثنين 2019/11/04
أي غرفة يمكننا أن نقارنها بغرفة فنسنت في آرل

ما من فئة تعمل في المجال الثقافي أحببتها مثلما أحببت الرسامين. في سنوات غامضة كنت أرسم كما لو أني صدقت أني سأكون رساما. تلك حادثة اندثرت. ولقد قُدّر لي أن التقي رسامين كبارا في عالمنا العربي وأقيم علاقات وثيقة بهم.

الرسامون الحقيقيون كائنات إنسانية صادقة ووفية وعميقة في صفائها ونقائها وأريحيتها وكرمها. يتيح لك الرسام الحقيقي فرصة لتعلم طريقة أخاذة في التفكير في العالم والحياة معا كما لو أنهما موضوعان جاهزان في كل لحظة للتصوير.

“لقد خلق العالم لكي نراه”، قال لي ذات مرة رسام صديق وكنا حينها نستمع إلى واحدة من روائع الموسيقار الألماني باخ. قلت له “وأيضا من أن نستمع إليه من خلال الموسيقى”، قال “الموسيقى هي الأخرى طريقة في النظر”، سألته “ما الذي يفعله الأعمى؟”، أجاب “الموسيقى تهب الأعمى قدرة غامضة على النظر
فيعيد من خلالها تركيب العالم”.

هل كنا في الماضي أقل ممّا نحن اليوم عليه الآن؟ أنا لا أحب ذلك السؤال. لأن الحياة الحقيقية لا ماضي لها. الحياة الحقيقية تخلق مستقبلها. الرسام الحقيقي يقيم في المستقبل غير أنه في الحقيقة يصنع ذلك المستقبل فهو حين الرسم لا زمن له. زمن الرسم شيء وزمن الرسام شيء آخر.

ما تعلمته من الرسامين أنهم يدركون أن لوحاتهم ستصنع زمنا لسواهم. للآخرين الذين سيأتون من بعدهم ليكتشفوا أن تلك اللوحات رسمت من أجلهم لكي تعلمهم الترف. كل شيء تلمسه يدا الرسام يتحوّل إلى لقية نادرة. وهو ما يهب الرسوم القدرة على اختراع مستقبل للأشياء وطريقة النظر إليها.

أتذكر هنا “كلب” جياكومتي وحذاء فنسنت فان غوخ وعصفور كارل آبل. هناك ملايين الأشياء التي لم تعد تقيم في ماضيها وصارت تتقدمنا إلى المستقبل. لا لشيء إلاّ لأنها رُسمت.

أي غرفة يمكننا أن نقارنها بغرفة فنسنت في آرل. كل كلب يذكّرنا بكلب جياكومتي. نحن في الحقيقة نقيم في الرسوم.

16