سعود شيخو يشعل الحرائق في الحكايات ألوانا وحركات

تعوّد الفنان السوري الكردي سعود شيخو رسم حياة الشخوص التي حفرها الزمن على الملامح، فيصنع انفعالات تعلن بداية النهاية ونهاية البداية، عبر بورتريهات نورانية، رغما عن سواد الحبر، مؤرّخا من خلالها سير أصحابها، فتميّز في ذلك وتفوّق فيه، إلاّ أنه آثر أيضا الاحتفاء بالألوان وبهائها في لوحات أخرى تتشبّث بالحياة عبر ضوء ساطع كشموس وضّاءة.
بدأ بالخط العربي، وأعجب هو وكل من حوله بما كان يخطه من كلمات وجمل وحكم وآيات، فجرّب كل أنواعها النسخي، الرقعي، الفارسي، الكوفي.. إلخ، راق له ذلك، كان شغفه هو الذي يدفعه إلى التوغل، وكان يستمتع بها كثيرا وهو يفكّ حبكتها، حتى دون أن يدرك أن ذلك رافد للفنون وقد يجرّه ليصبّ في محيطها الأكبر. وهكذا كان.
هكذا وجد الفنان السوري الكردي سعود شيخو، مواليد الحسكة في العام 1979، نفسه يحمل قلم الرصاص ويبدأ في رسم وجوه من حوله، والده مثلا، ووجوه من كان يجول في ذاكرته كقاضي محمد، والمهاتما غاندي، ومصطفى البرزاني.. إلخ، ووجوه من قرأ لهم من أمثال يشار كمال، وشيركوه بيكه س، وجكرخوين، ونجيب محفوظ.. إلخ، أو سمع أغانيهم كأحمد قايا، أو شاهد لوحاتهم وأحبها كعنايت عطار، ورسم وجوها فولكلورية، وكل ما كان يميل به حبه وعشقه لصيغ جمالية يلتقطها في صور كانت تفرض ذاتها عليه لإنجازها.
صائد الألوان

انفعالات حسية تعلن بداية النهاية ونهاية البداية
مارس شيخو البورتريه وأتقن نقلها، أي رسمها، بل تمايز فيها، وأثار انتباه الآخرين، بل كاد يؤرّخ بها كسيرة ذاتية لأصحابها، لكن روح الفنان الذي كان ينبض فيه وتوقظه على امتداد الطريق بأنه سيكون ضحية إذا اكتفى بذلك، ولن يكون أكثر من رسّام جيد، ولهذا تمرّد على نفسه، وأسرع إلى عبوات ألوانه ليفرغها على قماشه الأبيض.
بدأ بالمغامرة دون البورتريه، مدركا أنه لا يمكن أن يكون المرء فنانا، ولن يكون، إلاّ إذا اقتحم مجالات أخرى من الرسم، فبدأ اللعب مع الألوان وبينها، وانطلق في المزج وخلق علائق بينها، وإن كان الأمر مقلقا في البداية، فكل حركة لفرشاته تثير غرابة متحفّزة، وكل توغل لأصابعه في أصقاعها يثير أسئلة قد تكون الإجابة عليها في ما بعد من قلبه وما ترسمه كينونته الفنية.
فلا شك أن هذا المسار الذي انعطف إليه/ فيه شيخو هو الذي التقط عاطفته ومنعتها من التعثّر، وبالتالي يمكن أن نعتبره اللغة التي كان عليه كفنان أن يتحدّث بها حتى يكون حضوره مشرقا، وليبدأ بالابتداع في مجال مختلف، لكنه محرّض لذاكرته ومخيلته، ولموهبته، ومحرّر له في الوقت ذاته من كل القيود التي كادت أن تبقي تجربته محدودة في كل مفرداتها.
لكن الإمكانات، شكلا وفكرا، التي كانت تصدح في أعماقه كانت لا بد من الخروج والسير به في طريق فيه ينصهر الروح بالعشق متطلعا إلى فعل شيء مختلف عمّا أنجزه من قبل، ونجح في ذلك وكانت له فضاءاته التي يغرّد فيها بأناشيده الملونة، وبعاطفة جميلة ومزدهرة بقيت ترافقه وهو يتنقل من منجز إلى آخر، ونتيجة لذلك كان مهما وطبيعيا أن يخرج شيخو إلى أفق جديد، ومحاولته هذه لم تذهب هباء، بل جعلته يمضي في اتجاه قادر أن يفجّر مكنوناته، وقادر أن يغرقه في الفن الحقّ، عائما في أعماقه، متسلحا بوفرة معرفية مذهلة جعلته صائدا ماهرا للآلئها.
إن العامل الجديد في هذا التحوّل الفني لدى سعود شيخو والمرتكز على التجاور اللوني، أو داخله ضمن شرطها الموضوعي بوصفها واقعة جمالية غير محدّدة ببنية معينة، بل قائمة على تلك المجاورة أو ذلك التداخل كحركة تغييرية في لحظة اندفاعها، مع خلق حالة من التصالح بين مفرداتها، التصالح القائم على التلامس بين مقاعدها المختلفة، فهو يعيد للمقياس الداخلي قيمته، ولا يهمل وظيفته بل يقومها وفق ما يراعي خصوصيته، وربطها بالوعي المستنير في استجاباته، مشكلة علاقة مع المتلقي، فاعلا فيه وفي تحوّلاته الثقافية.
بين الداخل والخارج
بورتريه بالأبيض والأسود للفنان التشكيلي عنايت عطار
الحركة عند شيخو عادة ما تكون بين نزول وصعود، وهذا يقتضي منه أن يحرّر مجالات التعبير لديه، ويخلق نوعا من التضافر فيها، بين تساؤلاتها، وما تتركه من أثر بوصفها مفهوما إجرائيا يستعين به شيخو لاستحضار نصه الجمالي بكليته، بتكامله، وبتداخله، فينبغي النظر إليه.
أقصد إلى نصه/ عمله بوقفتين على الأقل، الأولى في العلاقة بين مكوّنات النص ومقولاتها (الداخل)، والثانية في العلاقة بين هذا الداخل والمتلقي (الخارج) تحضيرا لاتخاذ معطى غير سائد، معطى بسمة أسلوبية ممهورة بلقطات لونية وصفية تطغى عليها تلك الإضافات التي ستجعل عمليات قراءتها أقل غموضا، وأكثر خصبا، وهذه ستسهم بكل تأكيد في إثراء تجربته.
يجد شيخو في الجماليات اللونية وعلائقها فرصة لإظهار وجهة نظره غير التقليدية على أساس من التفاعل المشترك بينها من جهة، وبينها وبينه من جهة ثانية، ممّا يرفع منسوب مواجهته لقضايا جمالية ترتبط بعمليات بحثه المستمرة وتوالداتها، وترتبط أيضا بعمليات الاستمتاع التي تخرج بحلول خاصة تنتمي برمزيتها إلى خصائص ذوي إحساس شديد بذاته، خصائص حسية تكرّس من أجل الإنسان كنمط أولي باحث وساع إلى القيام بالأشياء الجميلة بذاته.
وفي مقابل ذلك فإن حالة مشاهده مفتوحة بفعل ألوان متجاورة أو متداخلة وعلى هيئة مسطحات تشتمل على شط من روافد ألوان جميعها تفرغ حمولتها فيه، ويبدأ هو كصياد ماهر يلعب بالأمواج ويديرها تبعا لأهوائه وراحته، حتى يحظى بتشكيلات لا أسماك فيها ولا حيتان، فيها من الأعشاب اللونية ما تشذب مناظر تموجاتها التي نسجت على سطوحه بكل تركيباتها، فهو يسمح لها بإحداث تفاوتات استدلالية دقيقة ومحكمة ما يسمح لها بحيوية تجعل من عمليتي التلقي والتذوّق أمرا جوهريا من عمليات الخلق والابتكار والتي لا يمكن الاستغناء عنها.
هي تُرسّخ وضمن الظروف المحيطة بها قدرة شيخو على الابتكار والمهارة فيه، مصاحبا سلسلة من الافتراضات التي تنشط الحواس برهافة وحساسية، وتنتج انفعالات ومثيرات تتّفق مع ملكاته بوسائطها المختلفة، وهذا يؤدّي إلى صحوة عاطفية خاصة بالجمال، لها تفضيلاتها في مجمل حالاته، وهنا قد يحقّ لنا أن نتساءل، ما الذي يجعل حلباته تحاكي الحياة بهذا العمق، وتساهم بتحريض الرؤيا على الاستيقاظ لإشعال الحرائق في الحكايات.
