سعادة الفلاسفة تبطلُ سعادة الإنسان العادي

وسائل الترفيه والمتع هي ما يُبعدنا عن الشعور بالسعادة.
الخميس 2020/04/23
نخرج من العبودية والحزن لكي نحيا أبدا (لوحة للفنان بسيم الريس)

السعادة، أو ذاك المفهوم الهارب دائما عن محاصرته فكريا أو عاطفيا أو جماليا، مفهوم يتجدد كلما تقدمت التجربة الإنسانية أكثر، لكن ورغم محاولات الفلاسفة الإمساك به وتعريفه، ومقاربته كل من زاويته، وإقرارهم بصعوبة نيله، فإن هناك من الناس من ما زال يعتقد أن السعادة هي اللهو.

عندما يفقد الإنسان أشياءه اليومية البسيطة، كالجلوس في المقهى ومقابلة الأصدقاء والتجوّل في شوارع المدينة وتصفّح جريدة، يدرك أنّ له ما يجعل حياته سعيدة في وجه من الوجوه، ولكن سعيه لتحسين وضع لا يرضيه، أيّا ما يكن، وتوقه إلى أشياء قد تكون مستعصية، تجعله لا يشعر بقيمة تلك الأشياء البسيطة إلا بعد فقدانها.

فمن الناس من هو دائم التذمّر والشكوى من بؤسه وضيق حاله وافتقاره إلى بعض ما حازه غيره من نعيم، ثمّ يتفطّن بغتة أن الله وهبه نعمة لا تقدّر بثمن هي الصّحة، التي يذلّ أمامها كل شيء. تلك حال الأغلبية اليوم عندما حلّ هذا الوباء، فصار مجرد مغادرة البيت حلما باستعادة سعادة مفقودة. فهل تكفي تلك الأشياء لجعل الإنسان سعيدا؟

اللهو ليس سعادة

الحقّ إن السّعادة مبحث اختلف فيه المفكرون، أولئك الذين أكّدوا أنّ الحياة لا تكفي، وأننا نعيش أحيانا حياة أخرى، وهميّة، نغذّيها في داخلنا، إذ نحلم بحياة سعيدة، هي مزيج من الطوباوية والرغبة، قوامها أفراح بسيطة، نعيشها في راحة بال لا يشوبها غمّ ولا نكد. لقد جعل القدريون من هذه الحياة اليومية البسيطة أفضل الحيوات الممكنة دون الحلم بحياة أفضل، قد تكون في رأيهم مثالية.

وكان سينيكا (4 ق م – 65 م) مثلا يفضل العيش في عزلة قائلا “قرّرت الانغلاق بين أربعة جدران، لا أحد يستطيع أن يسرق مني نهاري. لن تعلق روحي إلا نفسَها، ولا تنشغل إلا بها، لا شيء يمكن أن يسلّيها، ولا شيء يعرّضها لحكم الآخرين. سوف تحرص على هدوء خال من أيّ مشكل عامّ أو خاص”.

أمّا فلاسفة القرن السابع عشر فقد عارضوا هذه الرؤية ونظروا إلى الحياة نظرة مغايرة، فالحياة في تصوّرهم ليست جميلة أو طيبة، وإنما هي عبارة عن تجرّد الوجود من أيّ إكراه. حياة حرة، طليقة كالهواء حيث ينعم المرء بكونه كائنًا حيّا، كما ذهب إلى ذلك روسّو حين قال “الحياة السعيدة منسحبة من العالم، متحررة من الزمن نفسه، ومن كل ما يرافقه كالندم والأمل والخشية”.

المعرفة الفلسفية هي ما يمكّننا من العيش في خلود، متحررين من شكّ الحاضر وخوف المستقبل وأسف الماضي

غير أن الحياة السعيدة لا تعني الترفيه الذي يتمثل غالبا في تبديد القلق، وخوف المرء من عجزه عن تحقيق شيء ذي بال في حياته، لأنه في هذه الحالة سيكون أمام ذاته، يواجه فراغا يقضي كامل أوقاته في ملئه بما يعنّ له، كوسيلة لتجنب التفكير في الموت. فحياة اللهو كما يشخّصها باسكال مثلا هي حياة مزيّفة، قائمة على الكذب والأوهام، كنوع من الهروب إلى الأمام.

يقول في هذا المعنى “من لا يرى ابتذال العالم هو نفسه مبتذَل. من الذي لا يرى ذلك باستثناء شبان يداومون الصّخب واللهو والتفكير في المستقبل؟ ولكن اخلعوا عنهم اللهو تَرَوْهم قد أجدبوا من شدّة القلق. يحسون العدم دون أن يعرفوه، لأن المرء يشقى إذا بات في حزن لا يُحتمل، ولا يجد ما يسلّيه”.

وفي رأيه أن من الخطأ القول إن الحياة السعيدة هي تلك التي توفّر المتع، والحال أنّ وسائل الترفيه هي تحديدا ما يُبعدنا عن السعادة. لأن السعادة في رأي باسكال لا توجد إلا في الراحة والهدوء وغياب القلق، تلك العناصر التي سبق أن دافع عنها القدَريون. أي أن اللهو في نظر باسكال هو وسيلة وحتى استراتيجيا لتجنب التفكير في الموت، ولكنه في الحقيقة هروب من الحياة، هروب من واقعنا الذي لا نريد أن نراه، لأن الحاضر يجرحنا، نخفيه لأنه يضنينا، وإذا كان ممتعا نأسى حين نراه يفرّ من بين أيدينا، فلا نعيش أبدا، بل نأمل أن نعيش ونتمنى أن نكون سعداء، دون أن نحقق ذلك، أي أن الحياة السعيدة عسيرة المنال.

المعرفة الفلسفية

نخرج من العبودية والحزن لكي نحيا أبدا
من يلهو يعتقد خطأ أنه حر وسعيد 

كيف السبيل لتحويل هذه المادة الهاربة المنفلتة إلى شيء جميل؟ لا يكون ذلك في نظر هذا الفريق من المفكرين إلا بالارتكاز على ما هو متوافر لدينا دائما ولا يقدر أحد على انتزاعه منّا، أي الإرادة، التي هي حسب ديكارت سلاحنا الوحيد لكي نحيا ما يسميه حياة سخية. وديكارت هو الوحيد الذي جعل من السّخاء مثلا أعلى للحياة، فالوجود بالنسبة إليه هو ما نكون فيه خالين من الندم والتوبة ونفاد الصبر والحزن، دون أن تعوزنا الإرادة.

هذا السّخاء ليس طيبة ولا أثَرة بل هو إقدام وجرأة وشجاعة في أن يكون المرء وفيّا لذاته، يحيا شغفه وولعه، دون أن يندرج ذلك ضمن إلزام أخلاقي. وهو أيضا فرحة المرء بأن يكون هو نفسه، أن يكون في حياته كما في بيته، في أفعاله وأقواله، في أفكاره وأحكامه.

لقد جعل ديكارت هدفه الأسمى حياة حرّة وسعيدة بغضّ النظر عن الظروف، حياة تجعل من الثقة في النفس مكسبا والحرية معادلا للنصر. وهو ما تبنّاه سبينوزا الذي يرى أن الحياة السعيدة تشتمل على المعرفة العقلانية بالذات والإله والعالم لتجعلنا في مأمن من الجهل البائس وعذاب العواطف.

وفي هذا يقول “لقد علمتني التجربة أن المصادفات الأكثر تواترا في الحياة العادية مبتذلة وتافهة. لذلك قررت أن أعرف ما إذا كان ثمة نعمة حقيقية، تكون ثمرةُ اكتشافها وامتلاكها فرحا أزليا وسياديّا. فلا الثراء ولا السلطة ولا المتع توفر لي حياة سعيدة، لأن كل ذلك مرهون بالظروف”.
وفي رأيه أن المعرفة الفلسفية هي وحدها التي تمكننا من العيش في خلود، متحررين من شكّ الحاضر وخوف المستقبل وأسف الماضي. أي أن الحياة السعيدة في رأيه ليست تلك التي نعيشها ونحن نمور بين الأحداث والرغبات، بل تلك التي تتطابق مع المعرفة الحقيقية للأشياء، كإيثيقا تحثنا على الخروج من العبودية والحزن لكي نحيا أبدا.

ولكن كيف يمكن أن نحيا حياة حكماء إذا كنا بلا أصدقاء ولا أهل ولا مال ولا نفوذ؟ إن الواقع أقوى من اليوتوبيا، لأنه يحطم حلم الفلاسفة بخلود مطمئنّ، فالحياة السعيدة ليست الحياة الحقّ. وهو ما بيّنه أرسطو منذ القدم، وشرحه لكل من يجهل تراجيدية الوجود، ووزن الحقائق المادية، ودور الحظ والصدفة.
ويقينا أن الإنسان العادي سيسعد بنهاية الحجر الصّحّيّ، ولكن سعادته ستكون نسبيّة، ظرفية، لا تلبث أن تزول بزوال أسبابها. وسوف ينسى أن تلك الأشياء البسيطة، وتلك الصحة التي ضمنت له الخروج من الوباء سالما، كانت في وقتٍ ما مبعث سعادته.

14