سطوة الناقد

محمود المسعدي الكاتب التونسي الأشهر الذي ظلت كتاباته حاضرة في التلقي والنقد والقراءات الأكاديمية، منذ صدورها حتى يومنا هذا، لم يكن بحاجة إلى سطوة ناقد، حتى لو كان هذا الناقد بحجم طه حسين.
السبت 2018/12/29
النقد بين الحقيقة والادعاء

منذ عامين، التقيت بأكاديمي عربي، وهو ناقد بارز، وكان اللقاء في أحد النشاطات الثقافية العربية الذي أقيم في إحدى العواصم العربية وإذ كنا نتحدث عن بعض شؤون الثقافة والإبداع، فاجأني بسؤال لم أكن أتوقعه، إذ قال لي: من هو الناقد في العراق الذي يمتلك سطوة الحكم النقدي، ليحدد أهمية المبدعين من شعراء وروائيين وكتاب قصة؟! وقد لمست في سؤاله ما يمكن أن أعدّه ادعاء كونه يمتلك مثل هذه السطوة على أدباء بلاده وهو الذي يحدد مواقعهم على خارطة الإبداع.

ولأنني ما مرَّ ببالي يوماً مثل هذا الحال، بل لا أستطيع أن أتعامل مع سؤال كهذا وأتقبله، فقد حاولت التهرّب من الإجابة عنه، وفي الوقت ذاته، أن لا تكون إجابتي حادة ومستفزة، فقلت: إن إقامتي الطويلة خارج بلدي، تجعلني غير قادر على رصد ما أراده السؤال، وبالتالي فأنا لا أعرف ناقداً في العراق يتوفر على هذه القدرة، مع ما تعرف من وجود أكاديميين لامعين ونقاد مجتهدين. وانتهيت إلى انطباع بأن الرجل لم يكن معنياً بمعرفة صاحب مثل هذه السطوة النقدية في العراق، أو في أي بلد آخر، بقدر ما أراد لفت نظري إلى أنه صاحب هذه السطوة النقدية في بلده، ورغم مرور الزمن لم أنس ذلك الحوار، فيحضرني بين الحين والحين وأحاول أن أتبيّن ما فيه من الحقيقة والادعاء، وتذكرت صديقا يكتب القصة القصيرة وكان في بداياته قد احتل موقعا طيباً بين أقرانه من كتّاب القصة القصيرة، وقد كتب عن إحدى مجموعاته القصصية أستاذنا الراحل الدكتور علي جواد الطاهر، فأشاد بها وبشَّر بكاتبها، فاتكأ القاص الموهوب على ما كتبه عنه الدكتور الطاهر، ولم يعد يستمع إلى أي رأي نقدي يتناول كتاباته، حتى تراجع وفقد حضوره المميز.

وإذ كنت أجد في هذه الحالة أمراً طارئاً، سواء ادعى أحدهم سطوة الناقد أم اتكأ آخرٌ عليها، فقد فوجئت أخيراً، بعد أن قرأت مقالة في مجلة الحياة الثقافية التونسية، بعنوان “موقف عميد الأدب العربي من –سد– المسعدي”، بقلم المنجي السعيداني، فأكتشف أن مثقفا كبيرا ومبدعا متميزاً، مثل محمود المسعدي، وهو الذي استقبلت كتاباته بالبحث والقراءات النقدية، كما لم يحظ سواه بهذا الاهتمام النقدي، كان يبحث عن اعتراف الدكتور طه حسين بكتاباته، وكأن تجاوزها من قبل طه حسين يشعره بنقص فيها.

وحين توجه طه حسين إلى تونس في العام 1957 وكان الكثير من متابعي الزيارة ينتظرون موقفه من عدد من القضايا، وبخاصة تقييم ما تنتجه الساحة الأدبية والفكرية، لكن وكما يقول المنجي السعيداني: كان الكاتب التونسي محمود المسعدي على أحر من الجمر في انتظار عميد الأدب العربي لمعرفة رأيه في كتابه “السد” وهو الذي أرسله إليه منذ فترة طويلة، فهو يعتبر إن اهتمام طه حسين بكتابه وتدوين قراءة عنه، بمثابة الشهادة له بجودة ما أبدعه.

صحيح، إن طه حسين في تلك المرحلة تحديداً، هو الأكثر حضوراً وتأثيراً في المحيط الثقافي العربي وكانت له سطوة في القول والرأي، غير أن المسعدي الكاتب التونسي الأشهر الذي ظلت كتاباته حاضرة في التلقي والنقد والقراءات الأكاديمية، منذ صدورها حتى يومنا هذا، وبهذه المؤثرات حققت مكانتها ومكانها في التاريخ الأدبي التونسي والعربي، لم يكن بحاجة إلى سطوة ناقد، حتى لو كان هذا الناقد بحجم طه حسين، ومن هنا فإن ما أفصح عنه المسعدي من رغبة في أن يكتب عنه طه حسين، لا أراها في منظورها هذا، بل لعلها، تفصح عن إحساسه بأن مثل هذه الشهادة تنفتح بكتاباته من محيطها المحلي إلى فضائها العربي، حاضراً ومستقبلاً.

14