سامان أبوبكر يكتشف الأعماق والتخوم من الطبيعة

لوحات تكشف حقيقة المستبد وتلاحق مكامن الجمال في كردستان.
السبت 2022/05/21
الطبيعة تبوح بكل أسرارها

يبحث الفنان التشكيلي سامان أبوبكر في عمق طبيعة بلاده كردستان، فيأخذ منها مشاهد شديدة الجمال لكنه يطوعها لتنطق بأوجاع البلاد وأهلها وأوجاع الإنسان عامة، وتستفزه لخلق مقاربات فنية جديدة تسخر من أوجه الحياة وتعود إلى البحث في الماضي.

بقدر ما أنعم الله على كردستان من خيرات وجمال طبيعة أظهر لها الطغاة أنيابهم التي بها ينهشون تلك الخيرات وذلك الجمال، وبقدر ما تكون كل بقعة منها لوحة رسمها الرب في أبهى حالاتها تكون في كل بقعة منها حكايات ألم نسجها الظالمون فيها بكل ما يمكن أن يطاله البِلَى إلى ما لا سلطان للبلى عليه. نعم يجملها الرب بجبالها وأنهارها وناسها، ويطلق عليها الحكام المؤقتون كل أحكامهم التي تجعل الخراب عاماً عليها، فجمال الله ووحشية المستبدين لا يلتقيان، ومهما كان الخراب ممتداً فيها، ومهما كانت المجازر بحقها كثيرة إلى درجة أنك تخشى قلب أي حجر، أو أيّ صخرة فيها خشية أن تصدمك بالوجع الكبير ليس آخرها أن تكون بوابة لمقبرة جماعية لأناس رفضوا الذل والهوان وأبوا إلا أن يكونوا أحرارا.

أسوق هذا الكلام وأنا أبحر في عالم سامان أبوبكر (كركوك – 1968)، العالم الذي يضج بالماضي والذي يمتلك تاريخاً موغلاً بالألم وما يتجلى فيه من خطاب لم يعد يجدي في سفر الفتوحات لآفاق السماوات التسع، فلا امتثال لمقررات الغرف المغلقة، ولا استماع لمكائد الكلمات، وحده الإنسان بقضاياه يغني المرحلة، وحده لا ترويض للذات فيه، ولا إجبار على استقدام المهزلة.

وعالم سامان يمضي على عدة محاور تتقاطع حيناً وحيناً يمضي كل منها لتفتح مجراها مغذياً الحواف بما زرع من حقول، فهو على محور ما يتغنى بطبيعة كردستان، ويحمل ريشه وألوانه إلى أحضانها قاطفاً منها ومن مروجها ما تيسر لتحايله من قنص للحظاتها التي تفي بحاجاته، فمقارباته لأبعاد الطبيعة الكردستانية تمثل فعل احتواء لإظهار مقاصدها دون حجب مرادها، وهو لا يكتفي بالمضي بها بوصفها حشودا جمالية تظل تجتذبه وكل عاشق لمزالقها ومخاطرها، بل بوصفها محصلة لمنجزاتها الفنية بخاصية جمالية وبنائية، مصغياً لمتطلباتها من النفاذ إلى دواخل أصقاعها.

بوكس

وسامان يعمل بطريقة ترفع من شعرية المكان حتى يستباح تماماً بين أنامله، فيخلق ما يمكن وصفه بخصوصياته التي يعيد تركيبها كل حين وفي كل حركة من حركاتها حتى يقيها من التيه الذي يقع فيه الكثير من أبناء جيله، فهو يثير الكثير من الإشكالات التي قد تظهر هنا أو تلد هناك، ملغياً كل خطوط الوهم التي قد تطرح رغماً عنه، ودربه مفتوح غير مقفل وهذا بحد ذاته بداية سعيدة لنهاية مفتوحة.

 وكثيراً ما يستعير الفنان من الطبيعة فروسيتها لإعلاء شأنها وكأنه بذلك يلخص التجربة بلغته هو، حريصاً على أن يكون مختلفاً، ولهذا فهمه لها على نحو سليم وعميق يمنحه قدرة عالية على التصوير وبإخلاص إلى أقصى حدودها، التصوير الذي وجد كي يعبر بعناية ودقة عن الزمن وتفاصيله.

وسامان أمين في نقل ذلك مع مراعاته لمبدأ الحتمية التاريخية بشكل منطقي ودقيق، فالسمة الرئيسية لديه هي أن يحافظ على تلك الحتمية من وجهة نظره للواقع والإنسان، ولهذا ترتبط علاقته مع الطبيعة بتغلغل كل منهما في الآخر دون استياء وهذا يجعله لا يفقد وضوحه التعبيري وقوته مهما طفا المضمر على السطوح في شكل إيماءات خفيفة وخفية، بل يتعلق بالأحكام الصريحة غير المعلنة، فيستلهم ما تيسر له من الحاجات الجمالية ومن كيفيات إنتاجها حتى كأنه بات على مشارف أن يحيط بجميع أسرارها مهما كانت متورطة في رحاب الميتافيزيقا التي تطلب من النص أبعاده التي أمنت بقاءه فاعلاً فينا وفي المشهدية المنتجة ذاتها.

ويبدو سامان كأنه يمضي تدريجياً في هذا المحور، محور لوحة الخالق إذا جاز لنا أن نسميها، أقصد محور مقارباته مع الطبيعة الكردستانية الخلابة، وكأنه يمضي تدريجياً فيها وبها إلى خلاصة مؤهلة لتحقيق آماله وطموحاته الإنسانية، إلى خلاصة مؤداها أنه في طبيعة كردستان، وفي كل شبر منها، بكل مفرداتها من حجر وشجر، من ماء ونهر، من سهل وجبل، من ثمر وبشر، وحدهم عشاق المكان يملكون حرية الاستمتاع بها وبذلك الجمال الرباني الذي ينبض بأصدق الأحاسيس وأدقها.

أما المحور الثاني الذي يشتغل عليه سامان فهو محور العباد إذا جاز لنا أن نسميه، محور العابثين في الأرض وبنعمها التي باركتها الآلهة، محور الطغاة والحروب، المحور الذي يظهره سامان بلغته التعبيرية الموجعة للروح وللتاريخ أيضاً، يظهره بمعناه المتناقض المنافق واللاإنساني، فهو لا يعجز عن ترجمة أحاسيسه بتعبيرات تأخذ مكانها في سلسلة الأشكال التي تكشف حقيقة المستبد بلا هوادة.

وتنتقد تلك المرحلة، مرحلة الطغيان، مرحلة الآلام والمآسي، مرحلة الصراع المزمن بين الظالم والمظلوم بكل تفاقمها، حيث يلجأ سامان إلى ينابيعه الروحية النقية، البعيدة عن التزييف والدجل، البعيدة عن الملوثات البازارية، فهو يكشف جوهرها الحقيقي بكل مقولاتها التي تسخر وتدين الحياة البائسة التي لا معنى لها، والتي تأكل فيها الحيتان الأسماك كلها، فلا هدير إلا للنياشين المزيفة، ولا اندفاعات إلا ما يعدلها، ولا خطاب إلا ما هو مفتون بها، ولا انشغال إلا بإنجاز ذاتها بوصفها خطاباً جمالياً مقدساً لا يحل محلها إلا الريح حين تهب لها.

وليس أمام سامان في مواجهته لهذه التراكمات من الخراب إلا اللجوء إلى ذاته وانفعالاته متخذاً منها منهجاً وفق قوانينه، متخذاً منها ومن أحاسيسه وصفات جمالية وروحية تقارب تلك التراكمات بوقائعها وأوجاعها، لاسيما أن الصور المؤلمة مازالت مجتمعة في تلك الروح وعالقة بها، فاللجوء إلى إبراز الإيقاعات المتعارفة من مكوناتها هو وجه من وجوه جريانها الذي يستدعي لحظات التوالد ذاتها.

الفنان لا يعجز عن ترجمة أحاسيسه بتعبيرات تأخذ مكانها في سلسلة الأشكال التي تكشف حقيقة المستبد بلا هوادة

كل هذا يعني أن سامان لا يستعصي عليه إخراج تلك الحشود من التراكمات بدلالاتها ذاتها، فتكون بمثابة استدعاء لها بكل مرارتها ومهما كانت تبتني عالماً آخر يحيلها إلى ما خفي من الوقائع الأكثر ألماً، ومهما يكن حجم التصورات الموجعة التي يرصدها سامان كبيرا فهو يبرزها بمفارقاتها المؤلمة وبما تتضمنه من تمثيلات لقضايا كبرى على نحو تبرز فيه طاقاته التعبيرية والإبداعية من جهة، ومن جهة أخرى يستقرئ التاريخ برموز موظفة في نصه على نحو مستحدث، وعلى نحو لا يقطع الحاضر عن الماضي، كما لا يمكن أن يتملص منه، فلا يكتفي بالإشارة إلى ذلك، بل يحولها نحو الخطوط العامة التي ترصد بدورها اكتشافاته التي تلامس العمق والتخوم معاً.

يعني هذا صراحة أن حدث الإبداع لديه لا يتجلى في موضوعاته بقدر ما يتجلى في طريقة التعبير عنه، لا يتجلى في نقل الظلم الاجتماعي والسياسي والقومي والإنساني، بل في سعيه لاستنطاقها وتحطيم قيود التزمت حولها، فالأوضاع والأوجاع بكل ألوانها التي ظلت حبيسة التاريخ وأدراجه حان لها أن تخرج إلى السطح بكل عناوينها لتدرك الإنسانية وحشية الإنسان ضد أخيه الإنسان بمجرد الاختلاف في اللغة أو في طريقة المشي، فالحركة الجمالية التي يطبعها سامان هنا تشكل عنصرا تكوينيا أساسيا في مشهده، وهنا يعلن الإبداع الحقيقي عن نفسه.

وهناك محور ثالث لسامان لا يقل أهمية عن المحورين السابقين، بل يوازيهما جمالاً وإبداعاً، سواء تعلق الأمر بما يبذله من جهود كي يكون مختلفاً، يكون نفسه، يكون سامان لا أحد آخر، أو تعلق بالعمليات التي يثيرها في خلخلة عوائق تحرير تلك الذات، الأمر الذي يجعل من إبداعه ثروة تندرج في السياق ذاته؛ المحور الذي أقصده هنا محور البورتريه الذي يستجيب لريشته لا كنوع سائد، بل لتحقيق مسعاه الإبداعي بما يمكن أن يؤكد عليه وعلى لحظات تحوله المتوترة التي تدفع الأسئلة بهويتها إلى صدارة الوعي.

وهو هنا لا يكتفي بنصف الحقيقة بل يوسع أفقها الحواري، سواء كان ذلك في الوجوه الشعبية، الفولكلورية، التراثية، الحياتية اليومية، أو في وجوه باتت تاريخاً لنا كوجه شيركو بيكه س، وآري بابان؛ فهو يمضي في الزمن الجديد والقديم، المظلم منه والراسم للأمل، يمضي في الزمن بدوافع إبداعية وإنسانية تبدأ من المعتم والظالم منه إلى المتغير الذي لا يكتفي بمحاولة استعادة الغائر بأكثر من معنى، بل يتطلع إلى آفاق جديدة له قدرة على الذهاب إليها، أو جرها وجعلها تأتي إليه على أقل تقدير.

15