"سادوس المحظورات" يحاصر المترجمين

هناك بعض الجوائز الأدبية والفنية العربية التي تفرض على المبدعين قيدا يبدو غير منطقي، ألا وهو الاحتشام، حيث لا احتشام في عالم الفكر والأدب والإبداع، بل هي عوالم حرة بعيدة عن الأخلاقية السطحية ولصيقة بالأخلاق الجمالية والإنسانية. وأخيرا تسربت هذه المعايير المكبلة إلى عالم الترجمة، الذي كان يعاني سابقا من مترجمين حرفوا النصوص مراعاة للأخلاق المشتركة.
أعلنت مديرة المركز القومي للترجمة بمصر، الدكتورة علا عادل، يوم السبت 15 أغسطس 2020، معايير الأعمال المحظوظة بالنشر في المركز.
غرابة الشروط ربما دفعت المركز إلى اختيار يوم عطلة لهذا الإعلان، لكي لا ينتبه أحد إلى جدية أمر من فرط عبثيته سيجعل قارئه يظنه دعابة تناسب يوم استرخاء؛ فلا يليق بمسؤول عاقل، إلا إذا كان هازلا أو منفذا لسياسات سلفية، فرض وصاية على مترجم أو قارئ، بوقايته من شرور كتب تفسد الأخلاق، وتراعي “ألا يتعارض الكتاب مع الأديان ومع القيم الاجتماعية والأخلاق والأعراف”.
الاحتشام السلفي
“القيم الاجتماعية والأخلاق والأعراف” ثالوث جديد يضاف إلى الثالوث التقليدي للمحظورات “الجنس والدين والسياسة”.
نحن أمام سادوس رهيب، يكون معه الخيار محدودا بأفكار محتشمة، مستأنسة لا تسبب صداعا: التاريخ الرسمي، البستنة، قصة أبوزيد. وقد يعتذر المركز عن نشره كتبا فلسفية بعضها يخوض مع الخائضين في قضايا تُفسّر باعتبارها ذات طابع إلحادي والعياذ بالله، ثم يكفّر عن خطئه بإعدام ما في مخازنه من ترجمات في علوم إنسانية لا تراعي معيار الإيمان.
التوجه السلفي المدرسي سيبقي على ترجمات قديمة راعت هذه الشروط، من دون قصد المترجمين، منهم دريني خشبة الذي ترجم في أربعينات القرن العشرين “الإلياذة” و”الأوديسة”، وعينه على البيان القرآني، فتتوجه مينرفا ربة العدالة والحكمة إلى الفتى تليماك بنصيحة ختامها “وعلى الله قصد السبيل”.
أما نسطور فيناجي مينرفا “وسنصلي لك ونذبح باسمك خير بقرة، لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث، مسلمة لاشية فيها”. وحين عاد أوديسيوس للثأر، نصح هاليتير أشقياء إيثاكا بتجنب لقاء الزوج العائد من التيه “الرأي ألا تذهبوا، وألا تجعلوها فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة”.
لا أظن دريني خشبة سعى إلى أسلمة خطاب “الإلياذة” و”الأوديسة” في ترجمة جادة، نصدّقها بقدر ما نستخف بترجمة هزلية حديثة، يجسدها حوار فيلم “1984” المأخوذ عن رواية جورج أورويل.
شاهدت الفيلم منذ ثلاثين سنة، ونسيت ترجمته القديمة، وأظنها تناقض ترجمة بعضها كوميدي لفيلم كابوسي، وقد أعدت مشاهدته قبل أيام في موقع «EgyBest»، وأضحكتني جرأة الترجمة على استخدام لغة سوقية، يترفع عنها المحافظون، وبعض العائشين في غرف العناية الاجتماعية الفائقة معزولين عن الشارع، حيث تسود هذه اللغة بين الشباب، ويمكن قبولها في حوار هذا الفيلم للتخفيف من قسوته وقتامته، خصوصا على لسان الجار اللزج بارسونز، وهو يصرخ في بطل الفيلم وينستون سميث، حين يفاجأ به في الزنزانة “ابتعد عن دين أمي يا سميث”. وفي المشهد نفسه، بعد أن يهدأ بارسونز، يخبر سميث بأنه اعتقل بوشاية من ابنته الطفلة “أنا فخور بها فشخ”، أي أنه فخور جدا.
ومن المؤكد أن سميث لا يدرك دلالة كلمة “فشخ” التي تتكرر في هذه الترجمة السوقية، ولكن مترجم حوار الفيلم يضع على لسان سميث جملة هزلية، وهو يلتمس الرحمة من مسؤول الحزب القوي أوبريان، ويقدم إليه دليلا على الطاعة “I love you”، فتكون الترجمة “أحبك في الإسلام”.
ويبدو أوبريان، ذو الروح المتصحّرة، ساديا غير متأثر بأي كلام في الحب أو الإسلام، بل إنه يهدد سميث بعذاب مستحيل احتماله، بإطلاق الجرذان المسعورة “تثقب الخدود وتلتهم اللسان”. ويعلق مترجم الحوار “إيه ابن الوسخة ده؟”.
العامية والفصحى
في مذكراته، التي أعدها حنا أبوحنا، كتب الفلسطيني نجاتي صدقي أنه أثناء الدراسة في جامعة الشعوب الشرقية بموسكو، تسابق الطلاب العرب إلى ترجمة “النشيد الدولي”، عام 1926، وطمأنهم فلاديمير أندروفيتش أستاذ اللغة الروسية بأن الفلسطيني ميخائيل عطايا (1852-1924)، واضع القاموس الروسي – العربي سنة 1913، تولى هذه الترجمة، وتبدأ بالنداء “قوموا يا موسومين باللعنة”، وتنتهي بالدعوة “هبوا إلى النصال.. هبوا إلى النزال.. وبالإنترناسيونال.. يعلو جنس البشر!”.
لم تعجبهم ترجمة النشيد، “لأننا وجدناه لغويا أكثر من اللازم”، وشكّلوا لجنة لتبسيطه، ثم أهملوا المشروع نهائيا، وآثر كل منهم أن يردده باللغة الأجنبية التي يجيدها. ثم دعاهم الطالب المصري “عزيز” إلى أن يصوغوا للنشيد ترجمة مشتركة، انتهت بالتوصل إلى نشيد مصري اللهجة:
الدنيا هيه هيه.. والعيشة هيه هيه
يا عمي حمزة.. إحنا التلامذة
ما يهمناش في القلعة نبات أو في المحافظة
ما فيناش واحد خواف..
من القوة نقوم ما نخاف..
واخدين ع العيش الحاف..
ننام من غير لحاف..
إحنا التلامذة.. يحيا الجهاد
بونجور يا خلايق!
نصّاب وسارق..
والبرجوازي يسخدم عمال بدراهم..
العامل دا حيوان
إحنا الشبان
أهل العرفان
إحنا التلامذة
يحيا الجهاد!
يسجل نجاتي صدقي أن النشيد، بترجمته المصرية، لم يعش طويلا، “إذ سرعان ما تحول إلى تهريج وكففنا عن ترديده”. لا تمايز في الترجمة أو الإبداع بين فصحى وعامية تكون أحيانا أكثر فصاحة وجمالا من الفصحى. ولنجيب سرور في مسرحية “ياسين وبهية” مشهد يصوغه بهذه وتلك، وقبل إيراد الصيغتين، يجب التذكير بأنه صدّر المسرحية بهذا البيان:
الشعر مش بس شعر/ لو كان مقفى وفصيح
الشعر لو هزّ قلبك / وقلبي.. شعر بصحيح.
المشهد يصور أحد سمر الفلاحين، في عناق الفصحى والعامية، بتلقائية وسخرية تناسب أحوال السكارى:
دارت الجوزة دورة،/ ثم دورة،/ قال واحد: ما تقولوا لنا يا مسلمين../ هي برضه الجنة فيها كهربه../ وإن ما كانش قولوا لنا بتنوّر بإيه../ ولا تطلع هي رخره مهببة!/ إن يكن كل الكلام،/ بتعابير العوام،/ لكم.. أو بعضكم.. غير مريح،/ فخذوه بالفصيح.
يا عباد الله قولوا../ يا ترى.. ثمة في الجنة أيضا كهرباء،/ أو فقولوا كيف بالله تضاء،/ أم عساها هي أيضا مظلمة؟.
فرق ما بين السما والأرض بين الاثنتين مش كده؟/ كل شيء وارد بقرآنك يا رب إلا هيه.. الكهربة!/ وتلاقيها برضه واردة../ طب قولوا لنا في أي سورة../ طمنونا أمّال يا هوه../ طمنونا في عرضكم!
وتناهى من بعيد ضوء ناي،/ ثم غطاه نباح./ كانت الجوزة قد دارت طويلا../ في أياديهم فداخت،/ وارتمت بالقرب منهم هامدة،/ مثلما يرجع فلاح من الحقل فيلقى../ نفسه فوق الحصيرة/ مجهدا حتى الشلل.
في ضوء الثالوث الجديد للمحظورات، فلن يعاد نشر هذه المسرحية ولا غيرها. كأننا على بعد خطوات من أجواء “1984”.