زمن اللطائف

العالمُ أجمل من أن نغرقه باليأس والندب والتهويل، وحتى في زمن مثل هذا، عصر كورونا وسلالاته.
الجمعة 2020/12/25
اللغة لها تأثير كبير على الناس

اللطائف مشكلة المشاكل لمن لا رقّة في جعبته. واللطف ميزانُ ذهبٍ دقيق، تُقاس به الحكمة والتمدّن والمعاملة وتناول الأمور وتفاعلات الحداثة بين الأمس واليوم والغد. وقد علّمنا أساتذتنا أن اللطائف ست، وهي النفس والقلب والسر والروح والخافي والأخفى. ولا يخفى على القارئ أنه لا يمكن للمرء أن يعتد بإنسانيته من دون أن يفسح المجال لتلك المكونات كي تتنفس هواء الحرية في عملها، فإن كبتها وضغط عليها، خنق بستانه الأخضر الخاص، ويبّس عروقه وجفّف أغصانه.

لا مفر من تزكية الإنسان لذاته كي يمضي إلى الأمام، كما ينكّه طعامه ويعطّر ثيابه، فلا تقلْ لي إن السلوك شيء والإبداع والعمل شيء آخر، كلام فارغ ونظريات زعمت أوهاما عشنا عليها طويلا عن ”موت المؤلف“، أنت هو المؤلف وحياتك هي الكتاب.

سمعتُ أهل المغرب العربي يقولون ”اللطف عليك“ بينما يردّد أهل المشرق أنهم ”سائرون باللطف“، ويمكنك أن تقف طويلا، مثلي، عند كلمات حلمي الحكيم وألحان فريد الأطرش في أغنية أسمهان الشهيرة “يا بدع الورد”. وحين قرأت ابن الجوزي الذي لقّب هكذا نسبة إلى شجرة جوز في بيته بواسط، وجدته يستعمل الشعر في وصف كلّ صغيرة وكبيرة مهما كان الموضوع ثقيلا أم خفيفا، حتى حين تحدّث عن قصة المسكين آدم المطرود من السماء، حزينا طائحَ الحظّ، وصف حاله بالقول ”فخرج أولاده العقلاء محزونين، وأولاده السبايا أذلة، أعظم الظلمة ما تقدمها ضوء، وأصعب الهجر ما سبقه وصل، وأشد عذاب المحبّ تذكاره وقت القرب، كان حين إخراجه لا تمشي قدمه، والعجب كيف خطا، وَتلفّتت عيني فُمذ خَفَيت، عنّي الطُلولُ تلفَّتَ القَلبُ“. أليس هذا لطفا في الخطاب، وأي لطف؟

وانظر إلى حديثه هذا، وقارنه مع لغة من يسمّون أنفسهم اليوم بالدعاة ورجال الدين، بينما هم يجهلون تأثير اللغة على الناس ”فلما وقعتْ شمسُ الشتاء في الطّفل، نشأ أطفال الزرع، وانتبهت عيونُ الأرض من سِنة الكرى، وﻧﻬضت عرائسُ النبات، فكأنّ النرجسَ عينٌ، والشقائقُ تحكي لون الخجل، والبهارُ يصف حال الوجل، والبنفسج كآثار العضّ في البدن، والنيلوفر يغفو وينتبه“.

العالمُ أجمل من أن نغرقه باليأس والندب والتهويل، وحتى في زمن مثل هذا، عصر كورونا وسلالاته، قد يأتي فيه ”منجل عزرا“ كما كانوا يقولون في صبانا، ويجزّ رؤوسا لا نتوقع أنه قد حان قطافها، يتأكد أكثر أنه من الحماقة قضاء العمر بالنكد والغم، لأن ابن الجوزي ذاته، لطيف اللسان ورقيق الألفاظ، هو ذاته صاحب كتاب ”أخبار الحمقى والمغفلين“ وفيه يحذّر من مصاحبة الحمقى السوداويين، حتى أنه كتب ”ما جالَستُ أحمقَ فقُمتُ إلا وجدتُ النقصَ في عقلي“. فالطفْ بنا منهم يا خفيّ الألطاف.

24