روبوتات مسيّرة تنقل التنافس التكنولوجي من الأرض إلى الفضاء

سباق صيني - أميركي محموم للنفاذ من "أقطار السماوات والأرض".
الاثنين 2021/05/17
مهندسون من برنامج الفضاء الصيني لحظة الإعلان عن نجاح الهبوط

السبت الماضي استفاق العالم على خبر نجاح حققته الصين، سيفرض على العالم التعامل بجدية مع طموحات هذا البلد الآسيوي العملاق. فبعد تسعة أشهر من بدء مهمته حط المسبار الصيني “تيانوين – 1” على سطح المريخ، ليبدأ في ذلك مهمة دقيقة تعكس طموحات بكين الفضائية الآخذة في الاتساع، ناقلا التنافس التكنولوجي من الأرض إلى السماء.

المسافات الهائلة بين الكواكب والنجوم حالت دوما دون استيطان البشر كواكب وعوالم أخرى غير الأرض. حتى استعمار الأجسام القريبة مثل القمر والمريخ مثل تحديا كبيرا. رغم ذلك، يعتبر عالم الفيزياء النظرية ميتشيو كاكو أن الإنسانية في طريقها إلى أن تصبح نوعا يرتاد الفضاء ويستوطنه قريبا.

إنقاذ الجنس البشري

ميتشيو كاكو: لا مفر من أن تتعرض الأرض يوما ما لكارثة كبرى

سبق للفيزيائي الأميركي (من أصل ياباني) أن كشف عن تنبؤات علمية للوصول إلى سرعات يتم الحديث فيها ليس عن سرعة الصوت بل عن سرعة الضوء، وذلك باستخدام أشعة الليزر الأرضية، لدفع المركبات الفضائية بسرعة تصل إلى 20 في المئة من سرعة الضوء. هذا سيقلص إلى حد كبير الزمن الذي تحتاجه المركبات الفضائية للوصول إلى كواكب بعيدة عن الأرض.

يخشى كاكو أنه لا مفر من أن تتعرض الأرض يوما ما لكارثة كبرى، مثل الكويكب الذي قضى على معظم الحياة على الأرض قبل 66 مليون سنة. ومن الحكمة، كما يقول، “نشر البشرية وتوزيعها عبر النجوم”. حماية للجنس البشري من الفناء والانقراض.

ولمساعدتنا في هذا الهدف، قال إن البشر سيحتاجون إلى بناء أساطيل من الروبوتات والآلات تهيّئ لنا ملاجئ ومستعمرات من المواد الموجودة في العوالم المستكشفة حديثا.

الصين تتعامل مع التحديات التي أشار إليها كاكو بجدية، وتستثمر بكين المليارات من الدولارات لتلحق بالقوى العظمى في هذا المجال (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا) وهي لا تخفي طموحها لتجاوز تلك الدول على صعيد الاستكشاف والبحث وإطلاق الأقمار الاصطناعية.

وكانت بكين قد أرسلت في العام 2003 أول مواطن صيني إلى الفضاء هو يانغ ليووي، الذي دار 14 مرة حول الأرض في غضون 21 ساعة.

كذلك تتولى الصين إطلاق أقمار اصطناعية لنفسها ولحساب دول أخرى.

وسجلت بكين إنجازا كبيرا غير مسبوق عالمياً في يناير 2019 إذ نجحت في إنزال روبوت مسيّر على الجانب المظلم من القمر. وفي عام 2020، حمل الروبوت عينات من سطح القمر إلى الأرض.

وتعتزم الدولة الآسيوية العملاقة تجميع محطة للفضاء قبل انقضاء عام 2022، لتصبح بذلك ثالث بلد في العالم يبني بوسائله الخاصة وجهوده الذاتية محطة فضائية بعد الولايات المتحدة وروسيا. كذلك تأمل في إرسال رحلات مأهولة إلى القمر في غضون عشر سنوات. وتم إطلاق الجزء الأول من مكوّنات محطة الفضاء في نهاية أبريل الماضي.

ويستلزم إنجاز بناء المحطة إطلاق الصين نحو عشر بعثات، بعضها مأهول. ولم يعلن بعد عن أيّ جدول زمني محدد في هذا الشأن.

مرحبا أيها المريخ

ثلاث دول وثلاث مهمات في شهر واحد
ثلاث دول وثلاث مهمات في شهر واحد

منذ يومين فقط (السبت الـ15 من مايو في الساعة 7.18 صباحاً بتوقيت بكين (18.11 مساءً بتوقيت غرينتش)، استفاق العالم على خبر نجاح الصين في مهمة ستفرض على دول العالم التعامل بجدية مع طموحات بكين. بعد تسعة أشهر من بدء مهمته حط المسبار الصيني “تيانوين – 1” على سطح المريخ حاملا الروبوت “تشورونغ”. ليبدأ في ذلك مهمة دقيقة تعكس طموحات الصين الآخذة في الاتساع. ويتألف المسبار من ثلاثة أجزاء هي مركبة مدارية (تدور حول الكوكب) ومركبة هبوط تقل الروبوت الذي يتم التحكم به عن بعد.

هبط المسبار “تيانوين – 1” في منطقة من الكوكب الأحمر تسمى “يوتوبيا بلانيسيا”، وهي سهل شاسع يقع في النصف الشمالي من المريخ. ولدى إعلان نجاح الهبوط، صفّق مهندسون من برنامج الفضاء الصيني كانوا أمام شاشات التحكم.

وعرضت قناة التلفزيون الحكومية برنامجاً خاصاً بعنوان “نيهاو هوكسينغ” (مرحباً أيها المريخ)، فيما وجه الرئيس الصيني شي جين بينغ التهنئة للقائمين على الرحلة وللشعب الصيني.

والهبوط على الكوكب الأحمر كما يٍؤكد الخبراء أمر معقد، وسبق أن أخفقت مهمات أوروبية وسوفييتية وأميركية عدة في تحقيقه في الماضي.

وكانت الصين قد قامت بمحاولة سابقة لإرسال مسبار إلى المريخ في عام 2011 خلال مهمة مشتركة مع روسيا. لكن المحاولة توقفت وقررت بكين بعد ذلك مواصلة المغامرة وحدها.

وفي فبراير 2020 نجحت الصين في وضع “تيانوين – 1” في مدار المريخ.

ولا توفر الدورة الفلكية إلا فرصة إطلاق واحدة كل 26 شهراً، وذلك حين تكون المسافة بين المريخ والأرض أقصر من العادة، تكون المسافة عندها 55 مليون كيلومتر تقطع في غضون ستة أشهر، ما يجعل الرحلة أسهل.

واختير اسم “تشورونغ” (إله النار) في الأساطير الصينية، بعد استطلاع جرى خلاله سبر آراء المتابعين عبر الإنترنت. ويطلق على كوكب المريخ باللغة الصينية “هوشينغ” وترجمته الحرفية هي “كوكب النار”.

وكان المسبار “تيانوين – 1” أرسل في فبراير الماضي أول صورة التقطها للمريخ، وهي بالأبيض والأسود، أظهرت عددا من التضاريس بينها فوهة سكياباريلي ووادي مارينر (فالس مارينيرز)، وهو مساحة شاسعة من الأخاديد على سطح المريخ.

وبات المسبار الصيني سادس مركبة من هذا النوع على مستوى العالم تحقق إنجاز الرحلة إلى الكوكب الأحمر وتهبط على سطحه بنجاح، ولكنّ هذا لا يعني بالضرورة أن دور الإنسان قد حان للقيام بهذه الرحلة، ولا يتوقع الخبراء أن يكون هذا الموعد قريباً، رغم أن الرحلات البشرية إلى كوكب النار هدف قديم وضعه الإنسان منذ عقود.

الرحلة إلى المريخ تستغرق سبعة أشهر وعلى الرواد أن يمضوا هناك 30 يوما في متوسط درجة حرارة 63 مئوية تحت الصفر

وقال مدير ناسا بالإنابة ستيف جورشيك “بحلول منتصف العقد الثالث من القرن الحالي، قد نبدأ في استخدام الوسائل والآليات التي نستخدمها للوصول إلى القمر لإرسال رواد فضاء إلى المريخ”.

وإذا كانت الصعوبات التكنولوجية الكبيرة عولجت تقريباً، فإن عوامل كثيرة لا تزال غائبة من المعادلة.

فالرحلة إلى المريخ تستغرق نحو سبعة أشهر، وعلى رواد الفضاء أن يمضوا هناك 30 يوما في البداية، بحسب ناسا. ويبلغ متوسط درجة الحرارة 63 درجة مئوية تحت الصفر، فضلاً عن أن الإشعاعات كثيرة، والجو يحتوي على 95 في المئة من ثاني أكسيد الكربون.

أما الجاذبية فلا تتعدى 38 في المئة من جاذبية الأرض. لكنّ جي سكوت هابارد الذي كان يعمل في ناسا وقاد أول برنامج يتعلق بالمريخ قال “تعلمنا الكثير عن الجاذبية الصغرى بفضل محطة الفضاء الدولية”.

إلاّ أن تقنيات ومعدات كثيرة لا تزال بحاجة إلى الاختبار.

عقبات سياسية

حمل المسبار الأميركي “برسفيرنس”، الذي هبط على سطح المريخ يوم الـ18 من فبراير 2021، أدوات متنوعة بهدف التحضير للبعثات البشرية في المستقبل، من أبرزها جهاز بحجم بطارية سيارة سمّي “موكسي” لإنتاج الأكسجين مباشرة في الموقع، عن طريق امتصاص ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي للمريخ، على غرار ما تفعل النباتات. وهذا الأكسجين سيمكّن مستوطنين بشرا مستقبلاً من التنفس، إلى جانب استخدامه وقودا أيضا.

ويُعتبَر برنامج “أرتيميس” الذي تركّز ناسا جهودها عليه اليوم بهدف إعادة إرسال رواد فضاء إلى القمر، حقل تجارب لإرسال بعثات بشرية إلى المريخ.

ورأت المحللة في قطاع الفضاء لورا فورشيك أن إرسال بشر إلى كوكب المريخ هدف “قابل للتحقيق”، لكنّها شددت على أن “إرسال روبوتات في الوقت الراهن أكثر أماناً” معللة ذلك بأن معايير السلامة المطلوبة تكون أقل.

إلا أن العقبة الكبيرة تبقى الإرادة السياسية والتمويل المصاحب لها. في عام 1990 أعلن الرئيس السابق جورج بوش عن هدف يتمثل في إرسال إنسان إلى المريخ قبل الذكرى الخمسين في يوليو 2019 لأول خطوة خطاها إنسان على سطح القمر.

شي جين بينغ: مرحباً أيها المريخ.. الرئيس الصيني مهنئا بنجاح الرحلة

ولم تتكشف وعود مماثلة أطلقها ثلاثة رؤساء خلفوه (جورج بوش الابن وباراك أوباما ودونالد ترامب) عن أيّ برنامج ملموس.

هل يتحقق الهدف في ثلاثينات القرن الجاري؟ أجاب جي سكوت هابارد “هذا ممكن، ولكن من دون الإرادة السياسية للإدارة الأميركية والكونغرس، لن يحدث ذلك”.

وتوقعت لورا فورشيك أن يتأخر الموعد المحدد في 2024 لتحقيق هدف عودة رواد الفضاء إلى القمر مما سيؤدي بالتالي، بفعل “تأثير الدومينو”، إلى تأخير مماثل لبرنامج المريخ، معتبرة أن ثمة مصداقية أكبر في التطلع إلى تحقيق هدف إرسال بشر إلى الكوكب الأحمر خلال أربعينات القرن الحالي أي بعد عشرين سنة من الآن.

في ضوء ذلك، يرى الخبراء أن شركة “سبايس إكس” قد تتمكن من إنجاز ما عجزت وكالة ناسا عن الإيفاء به، علماً أن الهدف الصريح لتأسيس الشركة، التي يملكها الملياردير إيلون ماسك، هو إتاحة استيطان المريخ من قبل الجنس البشري.

وعلى عكس الوكالات التي يموّلها دافعو الضرائب، يستثمر ماسك أمواله الخاصة، وبالتالي يمكنه أن يجازف بقدر ما يشاء دون أن يتعرّض للنقد أو الضغوط.

وقال جي سكوت هابارد الذي يرأس لجنة خبراء في مجال الأمن في الشركة إن “سبايس إكس” قد تتمكن بفضل “نهج عملها السريع” من امتلاك “مركبة فضائية جاهزة لنقل البشر قبل وكالة ناسا”. لكنه في الوقت نفسه أوضح أن مشاركة بشر في الرحلة “يحتاج إلى معدات متطورة” تضمن بقاءهم على قيد الحياة، وهو ما استثمرت فيه ناسا على مدى عقود.

من هنا، يعتقد الخبراء أن ناسا و”سبايس إكس” قد ينتقلان من المنافسة إلى الشراكة لتحقيق هذا الإنجاز بعد أن طال الانتظار.

أهداف أبعد

نجاح بكين في الوصول إلى المريخ
نجاح بكين في الوصول إلى المريخ

الاهتمام بالكوكب الأحمر والإقبال على دراسته ليسا أمرا مستجداً. فالمريخ هو أقرب كوكب إلى الأرض، ويشكل منجماً علمياً حقيقياً، واستقبل منذ الستينات حول مداره أو على سطحه عشرات المسبارات الآلية الأميركية بغالبيتها، فشِل الكثير منها. لكن منذ مطلع الألفية الراهنة واكتشاف آثار قديمة للمياه السائلة على سطح الكوكب، زادت جاذبية المريخ الذي استحال أولوية في مهمات استكشاف الفضاء.

الإمارات تدرس إمكانية إقامة "مدينة علوم" تحاكي ظروف العيش على المريخ بهدف إقامة أول مستعمرة بشرية بحلول عام 2117

وتتسابق دول عديدة اليوم، منها الولايات المتحدة وأوروبا والهند والصين والإمارات، في تسجيل نقاط في هذا المسعى، كما هو الحال بالنسبة إلى القمر، لتفرض نفسها قوة علمية وفضائية كبرى، وتلتحق اليابان التي وقفت خارج السباق حتى الآن عام 2024 مع إرسال مسبار لاستكشاف “فوبوس” أحد أقمار المريخ.

وتدرس الإمارات العربية المتحدة إمكانية إقامة “مدينة علوم” تحاكي ظروف العيش على المريخ بهدف إقامة أول مستعمرة بشرية فيه بحلول عام  2117.

والمريخ، حسب المعلومات المجمعة عنه حتى الآن، صحراء جليدية شاسعة فقدت غلافها الجوي الكثيف بعد تغير مناخي واسع النطاق قبل حوالي 3.5 مليار سنة، وهو لم يعد بمنأى عن الإشعاعات الكونية. ويعني ذلك باختصار حسب العلماء أنه غير “قابل للسكن”، ولا يمكن تحويله إلى “أرض ثانية”.

ولكن هذا لن يمنع في أن يصبح نقطة انطلاق لأهداف أبعد ينفذ من خلالها الإنسان من "أقطار السماوات والأرض" بسلطان العلم.

12