رواية هنغارية عن رحلة إنسانية في قلب الحرب

يعتبر “الدفتر الكبير” للكاتبة الهنغارية أغوتا كريستوف (1935-2011) بترجمة الكاتب والمترجم المغربي محمد آيت حنا رحلة إنسانية في قلب الحرب، حكاية يرويها توأم عاشا بجسدين وعقل واحد متطابق تماما، المكان غير واضح في النص والزمان كذلك، إنه زمن مضطرب بين حربَين، كلاهما ينتهي في متن النص، المكان الجغرافي ينتقل من المدينة التي لا تظهر إلاّ بشخوص ساكنيها، إلى قرية حدودية نائية، لا معالم واضحة لها، وهذا الاضطراب ربما هو ما دفع الكاتبة إلى الاعتماد في عتبة النص على مشهدية تامة تلتزم بالإخبار عن انتقال عائلي وشيك تقوده الأم نحو القرية.
عائلة في الحرب
تروي رواية “الدفتر الكبير” الصادرة عن دار الجمل حكاية العائلة التي كانت مستقرة قبل الحرب، الأب يعمل صحافيّا ومراسلا حربيا، وما إن تبدأ المواجهات حتى ينتقل إلى الجبهة ومنها يغيب تماما عن متن النص حتى نهايته، حيث يظهر عائدا في الفصل الأخير، بينما الأم الخائفة على مصير الطفلَين لا تجد سبيلا إلى النجاة إلاّ بالعودة إلى القرية، حيث تقطن أمها التي تُعرِّفها الكاتبة بأنها مشعوذة مكروهة من قبَل الجميع، مُتهمةٌ بقتل زوجها بالسم، وتملك حقلا كبيرا وتشتغل ببيع ما تنتجه الحيوانات من حليب وبيض ولحم، تلتزم المؤلفة بالوصف المباشر المعتمد على التشخيص، هي لغة صحافية بعيدة عن المبالغة اللغوية، فيأتي السرد على لسان الطفلين اللذين يعيشان مع الجدة بعد انصراف الوالدة.
وقبل الدخول في الدوائر السردية للرواية التي جاءت مقسمة على فصول متتالية ومتشابكة في آن واحد، حكاية متصلة منفصلة بطريقة درامية، يمكن الإمساك بكل شخصية منها ورسمها وتقديمها منفصلة عن المحيط باستثناء الولدين، وردَ مثلا في وصف الجدة “جدتنا ضئيلة الجسم وضامرة، تضع شالا أسود على رأسها، ملابسها رمادية قاتمة، ترتدي حذاء عسكريا باليا، وعندما يكون الجو مشمسا تتمشى حافية القدمين، تملأ وجهها التجاعيد والبقع السمراء والخلات المشعرة، لم تعد تملك أسنانا، على الأقل تلك الظاهرة، لا تغتسل الجدة مطلقا، تمسح فمها بطرف شالها كلما أكلت أو شربت”.
من هذا الوصف الدقيق ينطلق النص إلى فضاءات القرية التي يظهر أبطال المكان فيها تباعا، “الفتاة خطم الأرنب وأمها العمياء والصماء، السيد الخوري، الخادمة، الاسكافي، الضابط المستأجر، الجندي الوصيف، صاحب المكتبة”، أبطال هامشيون أيضا يمرون من الحكاية دون أن يتركوا أثرا أو تحولا فيها.
والتغيّر الكبير الذي أصاب الطفلين في الانتقال من حياة إلى أخرى، جعلهما يعتادان على كل ما يحدث، لقد تعلَّما القتل، السرقة، التسول، العمل في جمع الحطب، الكتابة، اللغات من خلال القواميس والمعاجم، القراءة عبر مكتبة الكنيسة، التمثيل، عزف الموسيقى، التدخين، شرب الكحول، كل هذا أتى من منطق الرغبة في التجريب وليس الغرق في الرغبة للفعل ذاته.
الحكاية يرويها توأم عاشا بجسدين وعقل واحد متطابق تماما، المكان غير واضح في النص والزمان كذلك، زمن مضطرب بين حربين
في مشهد ببيت الجدة، قرر الطفلان تعزيز مهاراتهما في الكتابة، يتخذان من عليّة البيت مكانا سريا لذلك، حيث يسعيان بالكتاب المقدس وبمعجم نقلاه معهما من رحلتهما الأولى من المدينة نحو القرية، إنه درس متكامل في الكتابة كما ورد في الرواية “لكي نحكم على الموضوع بأنه جيد أو ليس جيدا، هناك قاعدة بسيطة: على التأليف أن يكون حقيقيا، أي أن يطابق الواقع، ينبغي أن نصف ما هو كائن فعليا، أن نصف ما نراه، وما نسمعه، وما نفعله، مثل ذلك، ممنوع أن نكتب: ‘الجدة تشبه المشعوذة’، بيد أنه من المسموح كتابة: ‘الناس ينعتون الجدة بالمشعوذة’، ‘الجندي الوصيف لطيف’ هذا الكلام ليس حقيقيا، لأن من الوارد أن يكون الجندي الوصيف قادرا على ارتكاب الشرور التي لا قبلَ لنا بها، سنكتب إذن ببساطة: أعطانا الجندي أغطية”.
الحرب هامشا
يبدأ النص بدوائر سردية ضيقة ما تلبث أن تتفرع إلى مسارات عبر مستويات متنوعة ومختلفة المصائر، فالأم التي تظهر في عتبة النص تختفي لتعود مع الفصول الأخيرة رفقة ضابط أجنبي وبين يديها طفلة صغيرة، تعود لتجمع شمل العائلة من جديد، لكنها تموت بقذيفة أنهت مسيرتها مع الطفلة بعد أن رفض التوأم العودة معها.
والخوري أيضا الذي يتورط مع “الفتاة خطم الأرنب” ببعض الأفعال المخلة بالأخلاق يتعرض للابتزاز من الطفلين، لكنه يختفي من النص دون معرفة مصيره النهائي، خادمته التي تعطف على التوأم تتشوه بالحرائق أمام موقد النار بعد أن دسّ أحدهم البارود بين الحطب لتموت بعد ذلك على الجبهة، حيث تطوعت للعمل كممرضة لرعاية الجرحى والمصابين من الجنود، التنامي في الفعل والمسير الدرامي يظهر عند الطفلين، حيث يتفاعلا بشكل تام مع الزمان والمكان، فيعتادا الحياة في القرية بل يصيرا جزءا من تفاصيلها اليومية.
|
ويبدو من الرواية أن جولات الحرب غير مهمة، فهي تصير على الهامش كالموسيقى التصويرية التي ترافق الفيلم السينمائي، إنها مواجهات تحدث بين حدثين في القرية الصغيرة، كأن تقول الكاتبة على لسان الطفلين مثلا “يحدث كذلك أن تنقض إحدى الطائرات لتطلق الرصاص من رشاشها على الناس في الحقول والأزقة، علَّمنا الجندي الوصيف أنه ينبغي أخذ الحذر حين تتوجه الطائرة نحونا، لكن ما إن تستوي فوق رؤوسنا حتى يكون الخطر قد زال”.
أيضا، فإن هوية المتصارعين ولغتهم غير معروفة ولا حتى سبب الحرب التي يريد الجميع أن تنتهي، لا وجه واضحا للمعتدي أو المعتدى عليه، المهاجِم أو الصاد للهجوم، ما نعرفه من النص أن هناك حربا تقع على مقربة والمدنيون بانتظار من يحرّرهم، لهذا نجد أن الوصف يستخدم كلمات مثل “يقولون، ينقلون، يتداولون”، وورد في النص “بحسب ما يقولون، فإن الجنود الأجانب الموجودين في بلادنا، ليسوا حلفاء لنا، وإنما هم في الحقيقة أعداؤنا، أما أولئك الذين سيصلون قريبا، وسيكسبون الحرب، فليسوا أعداءنا، وإنما هم محررونا”.
وفي هذا المفصل يدخل النص زاوية جديدة تشرح العلاقة الداخلية بين المحرِّر والمُحرَّر، علاقة إشكالية لا تروق للأبطال، لكن الرواية تضعها في إطارها العريض الذي اقتبس من النص، “لا يُسمَحُ بأي مزحة ضد محررينا، وضد حكومتنا الجديدة، وتكفي وشاية بسيطة لكي يُلقى بأي كان في غياهب السجن، دون تحقيق، ودون محاكمة، وبدأ الرجال والنساء يختفون دون أن يعرف أحد لماذا، ودون أن تعلم عائلاتهم شيئا عن مصيرهم، أُعيد بناء الحدود وصارت الآن ممتنعة الاجتياز”.
الحدود هي الفاصل بين عالَمين، بعد موت الجدة تبدأ فكرة اجتياز الحدود نحو البلاد الأخرى مطروقة عند الطفلين، فالجدة تصيبها جلطة دماغية فيساعدها التوأم على الموت بالسم، ويستخرجا الكنز المدفون في قبر الجد، إنه كنز مكوَّن من قطع ذهبية وفضية، هنا تظهر شخصية الأب مرة أخرى، يعود من الأَسر والاعتقال السياسي راغبا في عبور الحدود، فيدفع الطفلان والدهما من نقطة ميتة في الخط الحدودي لينفجر به لغم ويعبر أحد الطفلين السياج فوق أشلاء الأب حاملا كيس الكنز، بينما يعود الآخر إلى بيت الجدة في مشهد تنتهي به الرواية وكأنه لقطة عامة من فيلم سينمائي مفتوح النهايات، حدود ودوريات من الجنود، أشلاء الأب وطفلان كل منهما يقف في جانب من الأرض.
“الدفتر الكبير” رواية تعبر النفس البشرية بهزَّات عنيفة، إلى جانب جولات الحرب، ليس في قلبها تماما، الحدث فيها دراماتيكي متصل منفصل مركزه طفلان ولدا معا على هيئة توأم، يبنيان عالمهما الخاص لتقدِّم الكاتبة من خلالهما نموذجا حيا وصارخا لتأثير الموت الجمعي المحيط على إنسان سوي.