رشيد محمد رشيد مهندس توريث جمال مبارك يعود من جديد

القاهرة - ثمة تطورات كثيرة على الساحتين السياسية والاقتصادية، تشي بأن نظام الرئيس عبدالفتاح السيسي يبدي رحابة صدر في التعامل مع رموز النظام الأسبق الذي قاده حسني مبارك وحكم البلاد نحو ثلاثين عاما، لدرجة بدأت فيها وزارة التعليم محو الذكريات التالية لهذه الفترة من مناهجها. فمن العام المقبل لن يجد التلاميذ كلاما عن ثورة 25 يناير 2011 التي أطاحت بنظام مبارك، ولن يجد ذكرا لثورة 30 يونيو 2013 التي أطاحت بنظام الإخوان في مصر.
التأمل في هذه المسألة ينطوي على دلالة مهمة تقول إن الأمور تتجه للعودة إلى ما كانت عليه قبل ثورة 25 يناير. ربما يجد هذا الاتجاه ارتياحا لدى البعض بعد أن كادت البلاد تنزلق إلى حرب أهلية، وربما يعتقد آخرون أن هذه الطريقة يمكن أن تثير المزيد من الاحتقان، لكن في الحالتين هناك رغبة عارمة من قبل النظام المصري الحاكم في الاستعانة برموز مبارك وغسل سمعتهم عبر توفير قنوات قانونية تعيدهم إلى الواجهة.
كشفت عودة الملياردير المصري رشيد محمد رشيد وزير التجارة الخارجية والصناعة الأسبق إلى القاهرة والذي هرب من مصر بعد ثورة 25 يناير 2011، عن انفراجه كبيرة في التصالح مع عناصر نظام مبارك، وقد تتبعها عودة آخرين.
فريق اقتصادي كامل
هذه العودة كلّفت رشيد نصف مليار جنيه مصري (ما يعادل 28 مليون دولار) كغرامة تصالح مقابل التنازل عن القضايا والاتهامات التي وجهت إليه خلال فترة عملة وزيراً لنحو سبع سنوات متتالية أثناء حكم مبارك، أرجعها عدد من أصدقائه والمقربين منه إلى أنه كان يعمل مستشاراً اقتصادياً للحكومة القطرية، وكذلك إلى علاقاته الخفية مع تركيا.
بدأ رجال الأعمال وعدد من رموز نظام مبارك من الهاربين خارج البلاد العودة لمصر والظهور على الساحة مجدداً عقب اتجاه الحكومة الحالية للتصالح معهم، فبعد 2321 يوماً بين دبي والدوحة ولندن عاد إلى القاهرة رشيد محمد رشيد وزير التجارة الخارجية والصناعة الأسبق الأسبوع الماضي ليبدأ رحلة أخرى، لا أحد يعلم هل ستكون مقتصرة على مهام اقتصادية أم يمكن أن تنحدر مرة أخرى إلى مهام سياسية معينة.
بعد عودته للقاهرة، بدأت تتصاعد أصوات مطالبة بضرورة الاستفادة من خبرته في مجال الاستثمار، خاصة وأن التصالح معه على حد وصفهم يصبّ في صالح اقتصاد البلاد، بوصفه وكيلا لإحدى العلامات التجارية العالمية الكبيرة ما يعزز من الثقة في مناخ الاستثمار بالبلاد.
لم تقتصر تلك الأصوات على رشيد فقط، بل امتدت إلى ضرورة الاستفادة من خبرة يوسف بطرس غالي وزير المالية الأسبق وصديق رشيد في مجموعة جمال مبارك، نجل الرئيس الأسبق الذي كان يقبض على زمام الأمور في الحزب الوطني الحاكم، والهارب في لندن حاليا، بعد دخول اقتصاد البلاد في دائرة من التباطؤ وبات يحتاج إلى كفاءات لإدارة تلك المنظومة للخروج من المحنة في أسرع وقت.
وشهدت الفترة الماضية ظهوراً كبيراً لمحمود محيي الدين نائب رئيس البنك الدولي حالياً ووزير الاستثمار في حكومة أحمد نظيف إبان حكم مبارك، والذي يغادر القاهرة لمنصبه الرفيع في البنك الدولي بعد أن سطع نجمه اقتصاديا، والآن هناك من يطالب بعودته وإسناد رئاسة الحكومة إليه، لخبرته الاقتصادية الكبيرة وقدرته على المساعدة في إخراج الاقتصاد المصري من عثراته الراهنة.
عودة رشيد تكلفه نصف مليار جنيه مصري (ما يعادل 28 مليون دولار) كغرامة تصالح مقابل التنازل عن القضايا والاتهامات التي وجهت إليه خلال فترة عملة وزيرا لنحو سبع سنوات متتالية، أرجعها البعض إلى أنه كان يعمل مستشارا اقتصاديا للحكومة القطرية، وكذلك إلى علاقاته الخفية مع تركيا
مصادر اقتصادية قالت لـ”العرب” إن محيي الدين كان مرشحاً بقوة لرئاسة وزراء مصر خلال التعديل الأخير الذي مرّ عليه نحو ثلاثة أشهر، لكن المفاوضات معه باءت بالفشل، ولم يكن الرجل بعيداً عن المطبخ السياسي في فترة مبارك، وكان رمزاً من رموز اللجنة الاقتصادية بالحزب الوطني المنحل إلى أن سجل رقما قياسياً وأصبح أصغر من تولى رئاسة تلك اللجنة التي كانت ترسم خريطة البلاد الاقتصادية.
عراب التوريث
هرب رشيد قبل أن يواجه مصير السجن وهو داخل البلاد أسوة بما حصل مع عدد من رموز نظام مبارك، وعلى رأسهم صفوت الشريف الذي شغل منصب وزير الإعلام لأكثر من عقدين، وخليفته في الوزارة أنس الفقي، ورجل الأعمال أحمد عز أمين التنظيم بالحزب الوطني المنحل وغيرهم، بالإضافة إلى مبارك نفسه ونجليه علاء وجمال، وها هو رشيد يعود للبلاد يوم 15 يونيو الجاري.
مقربون من رشيد، أكدوا أنه لم يكن شخصاً عادياً، فهو يتمتع بقدر هائل من الذكاء الذي يصل أحيانًا إلى حدّ المكر والدهاء، ومن المقربين لمبارك شخصياً عندما شغل منصب وزير التجارة، وكان أحد عرّابي صفقة توريث الحكم الفاشلة لجمال نجل الرئيس الأسبق.
خبرات رشيد أبهرت من حوله، ونجح في أن يصبح عضوا باللجنة الاستشارية العليا للاستثمار في تركيا التي تتبع رئيس مجلس الوزراء التركي شخصيا، وعندما حضر إلى مصر وأصبح وزيرًا أيام مبارك ذاع صيته لدرجة أنه كان مرشحاً لمنصب رئيس الوزراء أكثر من مرة.
استغل الرجل علاقته القوية بالجانب التركي وسعى إلى تأسيس منطقة صناعية تركية متخصصة في مدينة السادس من أكتوبر الصناعية (غرب القاهرة)، لكن حلمه لم يكتمل بسبب عدم اهتمام النظام السياسي في ذلك الوقت بتعزيز العلاقات مع أنقرة.
رشيد الذي فر إلى خارج البلاد في 4 فبراير 2011 على متن طائرة خاصة من مطار برج العرب بمدينة الإسكندرية (شمال مصر) قبل سبعة أيام فقط من إعلان مبارك تنحيه وتسليم مقاليد حكم البلاد للمجلس العسكري، معروف أنه كان مهندس صفقة التطبيع الاقتصادي بين مصر وإسرائيل المعروفة باسم “كويز”، ومن الذين نجحوا في قراءة نتائج ما جرى في يناير مبكراً، ففرّ ولم ينتظر طويلا حتى تتكشف له الأمور.
بين أعداء كثر
بعد توليه حقيبته الوزارية في يوليو 2004 استطاع خلال ستة أشهر ضم مصر لبروتوكول “كويز” وهى اتفاقية (المناطق الصناعية المؤهلة) ومن خلالها يتم تصدير المنتجات المصرية للولايات المتحدة دون أيّ رسوم جمركية. ووقعت القاهرة رسمياً في 15 ديسمبر 2004 على اتفاق “كويز” ثلاثي الأطراف بين مصر وإسرائيل والولايات المتحدة، وكان الذي وقّع عن الجانب المصري هو رشيد محمد رشيد، وعن الجانب الإسرائيلي إيهود أولمرت نائب رئيس الوزراء ووزير التجارة، وروبرت زوليك الممثل التجاري الأميركي عن الولايات المتحدة.
على الرغم من ترحيب رجال الأعمال بمصر بتولي رشيد حقيبة وزارة التجارة الخارجية والصناعة، لكن أكدوا أن تلك الحقيبة تحتاج إلى رجل أعمال قادر على فهم طبيعة مناخ الاستثمار. ولم يدم الترحيب طويلاً بعد تفجر قضيتي احتكار سلعتي الحديد والإسمنت، وبموجبها احتدم الصراع في عام 2008 بين رشيد ورجل الأعمال أحمد عز أمين لجنة السياسات بالحزب الوطني، الذي يمتلك أكبر مصانع لإنتاج للحديد في البلاد وكان يتحكم في نحو 70 بالمئة من حجم السوق.
|
قانون “منع الممارسات الاحتكارية” كان يقضي بفرض غرامة قيمتها 10 ملايين جنيه (نحو 5 مليون دولار بأسعار ذلك الوقت) على المحتكر لأيّ سلعة، لكن رشيد رأى أن هذا المبلغ زهيد جداً، وأدخل تعديلات على القانون لتصبح غرامة الاحتكار نحو عشرة بالمئة من مبيعات الشركة وتغليظ العقوبة على المحتكرين.
واستغل رشيد سفره في هذه الفترة لباريس وقام بالإعلان عن تعديلات اقتصادية وترك المستشار القانوني للوزارة هشام رجب يواجه عاصفة الغضب حتى لا يدخل هو في صراع مباشر مع أحمد عز، ما زاد لاحقا من اتساع هوة الجفاء بين الرجلين.
بعد ثورة يناير 2011 وجهت تهم عدة لرشيد، منها تضخم الثروة وإهدار المال العام، وصدرت فيها أحكام قضائية ضده، إلا أن لجنة استرداد الأموال بالبلاد وافقت على التصالح معه مقابل الغرامة التي دفعها وعاد إلى القاهرة.
ضمت قائمة القضايا ضد رشيد إصدار محكمة جنايات القاهرة في 5 يوليو 2011 حكما غيابيا عليه بالسجن لخمس سنوات بعد إدانته بتهمة إهدار المال العام، وتغريمه مليوني جنيه (التي تعادل حاليا نحو 110 آلاف دولار)، ودفْع مبلغٍ مماثلٍ إلى خزانة الدولة على سبيل التعويض، وقضت ذات المحكمة أيضاً في 15 سبتمبر 2011 عليه بالسجن المشدد لمدة 15 سنة وتغريمه مبلغ 1.4 مليار جنيه (ما يعادل 80 مليون دولار) لإهداره 660 مليون جنيه (37 مليون دولار) من أموال الدولة.
ثروة متضخمة وشراكة مع قطر
حوكم الرجل أيضاً في أربع قضايا أخرى بينها القضية المعروفة إعلامياً بـ”تراخيص الحديد”، وثانية اتهم فيها بالإضرار بالمال العام والتربح لنفسه بمبلغ تسعة ملايين جنيه، بصفته رئيس مجلس إدارة صندوق تنمية الصادرات، وإهدار أموال مركز تحديث الصناعة التابع لوزارة التجارة والصناعة والإضرار المتعمد به والاستيلاء على المال العام منها بقيمة وصلت 15 مليون جنيه (730 ألف دولار)، وتضمنت القضية الرابعة اتهامه بالكسب غير المشروع وتحقيق أرباح طائلة والاستيلاء على مبلغ مليار جنيه وتهريبها إلى قبرص.
منذ تولّيه الوزارة كان رشيد حريصًا دائمًا على منح المناصب الهامة بالوزارة لأهل الثقة ولأصدقائه. فعين رجل الأعمال حلمي أبوالعيش رئيسا لبرنامج تحديث الصناعة، ووضع عمرو عسل رئيسا لهيئة التنمية الصناعية، فضلا عن توزيع رؤساء المجلس التصديرية التابعة للوزارة على المقربين، وبعد هروبه من مصر وجهت العديد من التهم إلى أصدقائه الذين لم يستطيعوا الفرار من نار الثورة.
جاء اسم رشيد أيضا ضمن تسريبات “سويس ليكس” والتي نشرتها صحيفة “لوموند” الفرنسية حول الخفايا السرية المصرفية، والتي رصدت خفايا أكثر من مئة ألف من عملاء بنك “إتش. إس. بي. سي” في سويسرا، واحتلت مصر المرتبة الـ28 في القائمة، وتصدرها رشيد والذي أصبح عميلاً للبنك في 2003 وأنشأ حساباً تحت مسمّى شركة “ليكسنجتون” المحدودة للاستثمارات والذي احتوى على عشرة حسابات فرعية حوت مبلغاً إجمالياً يقدر بنحو 31 مليون دولار بنهاية 2006.
|
يبدو أن الحياة تعيد ما جرى للأب مع الابن، وتكرر مع رشيد سيناريو فرار أبيه خارج البلاد بعد أن تعرض في عام 1962 إلى محنة كبيرة كادت تقضي عليه وعلى مستقبل أبنائه حينما تم تأميم شركاته التي كانت تعمل في مجال التوكيلات الملاحية وكانت واحدة من كبرى وأهم الشركات في الإسكندرية، وطبعًا لم يفارق ذاكرة رشيد، الذي ولد بمحافظة الإسكندرية عام 1955، شريط تلك الذكريات المريرة التي واجهت أباه التاجر المعروف وزادته صلابة.
الأب في حينه لم يجد حلا للخروج من المحنة سوى بالسفر خارج مصر لتعويض خسارته بعد التأميم، وعمل في مجال الاستيراد والتصدير في إيطاليا وألمانيا، وتمكن خلال الفترة التي عمل فيها بالخارج من إقامة شبكة علاقات كبيرة وقوية مع عدد من الشركات العالمية، واستطاع أن يوقع عقود مشاركة مع تلك الشركات ويمتلك توكيلاتها في مصر ومنطقة الشرق الأوسط.
ثم جاءت سياسة الانفتاح الاقتصادي في نهاية سبعينات القرن العشرين، والتي تبناها الرئيس المصري الراحل أنور السادات ودعمه اقتصاد السوق المفتوحة، ما دعا والد رشيد إلى العودة إلى الإسكندرية مرة أخرى ليؤسس مجموعة رشيد للمنتجات الغذائية، مدخلاً عدداً من الشركات العالمية للعمل في السوق المصرية لأول مرة، ومنها “دكتور أوتكر”، و”فاين فودز”، وظل يدير مجموعة شركاته لسنوات طويلة بعد عودته من الخارج، وكان حريصا على أن يعلّم ابنه الوحيد رشيد “أصول المصلحة”.
وفي مارس 2014 انتشرت أنباء تتحدث أن رشيد قد انتقل للإقامة في الدوحة نظرًا لارتباطه بمشروعات مع الحكومة القطرية التي طلبت منه الحضور بناء على دعوة منها وجهت له منذ فترة حكم الإخوان المسلمين في مصر للاستثمار في عدة مشروعات بقطر، وهو ما يفسر بعض المساعي من بعض رجال الأعمال من الإخوان المسلمين لحلّ مشكلات رشيد ومحاولة الوصول إلى التسوية ورجوعه إلى مصر، نظرًا للتدخل القطري للوصول إلى حلّ للأزمة وقتها. علماً أن رشيد يمتلك استثمارات داخل شركات قطرية بنسب مع مستثمرين قطريين في مجال المواد الغذائية والملابس والاستيراد والتصدير، والتي ترتبط بشركات أخرى ترجع إلى جنسيات متعددة مرتبطة بشركات “أوف شور”.