رستم أغالا يحاكي الواقع والطبيعة للتعبير عن نظرته إلى الأمور

فنان كردي يبحث عن ظله المطعون وأفقه المفقود.
السبت 2022/09/24
لوحة تعيد تمثيل الحاضر والأسطورة

رستم أغالا فنان كردي كانت منطقة كردستان العراق بوصلته التي تعيده إليها ليساهم في ازدهارها فنيا عبر أعماله ومشاريعه الثقافية والفنية التي تعيد طرح أسئلة وجودية لتجيب عنها بوجهة نظر تفهم الواقع باستعادة التاريخ ورموزه التي تبدو في بعض الأحيان مشتركة بين الشعوب والحضارات.

تذكرت مقولة الكاتب الألماني رودولف أرنهايم (1904 – 2007): “من دون ازدهار التعبير البصري لا تستطيع أي ثقافة أن تنشط على نحو إبداعي”، وأنا مقبل على قراءة تجربة الفنان التشكيلي رستم أغالا المولود في كويا بإقليم كردستان العراق في العام 1968، لما لها من فعل كبير في المشاركة في خلق ذلك الازدهار الذي يشير إليه أرنهايم.

فالرسام الكردي انضم بقوة إلى ذلك النهر الملون والذي ينبع من المدينة التي أنجبته ويجري نحو الإنسان في جهاته العشر. وهو بالإضافة إلى مجموعة كبيرة نعجز على حصرها من أبناء هذه المدينة -أقصد مدينة السليمانية في كردستان العراق التي يكاد يكون التشكيل بأنواعه عنواناً لها- يكرسون بأعمارهم وتاريخهم، بأعمالهم وبكل طاقاتهم كي يولد هذا الازدهار وتبقى شجرته باسقة، شامخة، مثمرة على امتداد التاريخ. ولهذا فجلّ نشاطاتهم البحثية منها والفنية تصب في ذلك النهر الذي سيسقي تلك الشجرة لكي تبقى الفكرة الجوهرية ولودة على مر العصور.

واستجابة لهذه الفكرة وللاهتمام بها كانت الطموحات الكبيرة والمتكررة لدى أصحابها، أصحاب الجماليات التجريبية التي تتحرك في طريقها الصاعد حتى تصل إلى النوعي والخاص من الظواهر الجمالية، فهم يؤكدون أن الخبرة الحسية هي الحاجة الأهم للوصول إلى ذلك الازدهار في التعبير البصري والتي ستعكس شعور المكان وفق إدراك هارموني تكون المتعة الداخلية حالة يمكن تحليلها بتلك الإحساسات السارة التي تتواجد في خبراتهم الكثيرة وكأنها وجبة شهية، الأمر يساق على الموسيقى كما على الفن التشكيلي من خلال أكثر من منحى.

رستم أغالا يكشف الفن كظاهرة يصعب تعريفها حقا، وجوانب جمالية بمعناها الارتقائي الذي يحدث عبر مراحل

لا يمكننا كمتلقين أن نركز عند رؤيتنا لأعمال رستم أغالا على العلاقات القائمة بين العناصر البصرية فيها فقط، بل لا بد أن نركز على تلك الموضوعات الفردية أو المنفصلة داخلها. وهذا يسجل له وهو الذي سيوصلنا إلى ما ستوحي به تلك الأعمال أو ما ستقدمه من مثيرات جمالية بعيدة عن التكرار وبعيدة عن كل ما يمكن أن يساعد في خلق الملل كأحد أهم الأعداء التي قد تلد في وقت ما بين المتلقي والعمل الذي أمامه، فالعين التي تم تدريبها على البحث عن الخصائص الجمالية للتكوينات الفنية لا يمكن إلا أن تتذوقها بصرياً. وبالتالي لا يمكن أن تتقبل ذلك التكرار وذلك الملل.

وإذا جاز لنا أن نقوم بتنظيم الحالات وعناصرها، بما في ذلك المكتفية بذاتها وفق مساراتها المتعددة، لا بد لنا أن نتقبل تقابلها وإن كان يخلق توترات عدة في بنيتها. وهذه النتيجة الخاصة التي هي أشبه بتقييم ما يحدث أمامنا، وما تقع عليه أعيننا هي عملية معرفية قادرة أن تحدد كل الاستجابات الانفعالية التي قد تحدث أثناء المشاهدة أو بعدها، حتى لو كان هذا العمل الفني هو مجرد محاكاة للطبيعة أو للإنسان وحياته، أو تعبيراً عن انفعالات الفنان، فالتصورات العامة تلك لا يستبعد أحدها الآخر، بل توجد معاً في كل عمل فني، وهناك قدر من المحاكاة مع قدر من الانفعال يجسده الفنان حتى يخرج بشكل من الأشكال التي تعبر عن وجهة نظره المعرفية والاجتماعية والسياسية.

لم يكن سهلاً علينا ونحن نذهب في عوالم أغالا، تلك العوالم التي تتطلب جواز سفر خاص بنا، وبلون خاص، لنتمكن من عبور الستائر اللونية، وندفع ذواتنا بحواسها العشر حتى نتمكن من سماع قصتها الطويلة جداً، والتي تروى من غابر الأزمان ولما تنتهي القصة التي تحكي قصة شعب، قصة حياة تحمل مخزوناً من الوجع الموزع بين الأمكنة والإنسان، قصة تتحدث عن حالاتها الصعبة، فالأمور لا تجري على هواها، فيها دائما ما يفاجئنا من تداعيات وهواجس مبعثرة، من كآبة الزمن والأسئلة التي تطرحها، من اختباء الأحلام بين حقول الروح وسطوح البيوت الطينية وكأنها بضاعة مهربة لا يمكن التصريح عنها.

وهي قصة منحوتة في الشمس مضت سنين طويلة وهي تحاول خياطة ثيابها الممزقة والأغطية التي تريد التدثر بها وهي تبحث عن الله ليسمع أنينها الكبير في هذا الفراغ القاتل، قصة تهبنا زهوراً ذبلت، وأشجاراً قطعت، وأنهاراً جفت ينابيعها كجفاف روحنا ونحن نبحث عن ظلنا المطعون، وعن آفاقنا المفقودة، هرباً من خوفنا ليوم يأتي ويطالبنا أن نغادر المكان. لا تكفينا الغربة حينها ونحن نحمل الحديقة ورائحة التراب الممددة فينا وزر إخفاقاتنا، لا خشية من رسائل تلاحقنا بل حباً بتفاصيل الأشياء وهي مشبعة بالضوء والتعب.

أغالا يعيد تصوير العين الزرقاء
أغالا يعيد تصوير العين الزرقاء

يكشف لنا رستم أغالا الفن كظاهرة يصعب تعريفها حقاً، يكشف جوانب جمالية بمعناها الارتقائي الذي يحدث عبر مراحل متتابعة، الإدراك أولها. فالفنان بداية لا يجب أن يكون منهمكاً إلا في نشاطه الفني وعلى نحو مباشر، وعليه أن يعرف ويدرك عالم أشيائه وموضوعاتها، ويكرس معظم طاقاته لاستكشاف عالمه البصري الذي قد يتضمن بعض المتضادات التي تكون نتاج عمليات قهرية، أو ردود أفعال لا إرادية، كالذي قد يحصل بين الضوء والعتمة، أو بين الأبيض والأسود. وليس آخرها معرفة الرموز التي ستعلو من أهمية منتجه، إن كانت على مستوى المعرفة غير المباشرة بعالم موضوعاته وشخوصها.

ويسهل إدراك تلك الرموز لنا كمتلقين وبطلاقة قراءتها وتذوقها، وفي ذلك قدرة على إضفاء أكثر من معنى عليها، فالإيماءات التي ستلد في مرحلة الإدراك أقصد في مرحلة القراءة هي ليست إلا تمثيلات عقلية لعوالم واقعية دون أن نحتاج إلى تبرير ذلك، يكفي أن تظهر تلك المشاهد الجمالية تدريجياً وهي تتحرك في المخيلة، حتى نستطيع أن نميل كفة التذوق لناحيتنا ونحن نقف أمام أعمال تبعد نوعاً ما عن المألوف بإمكانها أن تتحول إلى معابر وقنوات تتسلل إلى أرواح متلقيه والعكس صحيح أيضاً.

ونحن هنا نقف أمام أعمال غير عادية تنشد الإحاطة بكل الأسئلة التي يفوح منها الوجع إلى حد الفاجعة، فكان لا بد أن نتأثر بها ونعيد قراءتها مرات ومرات، وفي كل مرة تمضي بنا إلى الحضور وفق نسق مختلف ومغاير.

ومن أكثر الثيمات التي تلفت النظر في تجربة رستم أغالا، هي تلك الثيمة التي نطلق عليها العين الزرقاء، أو العين الزجاجية، أو الخرزة الزرقاء وهي تميمة معروفة في الوسط الشعبي لرد الحسد وجلب الحظ، ويعتقد أنها تجلب البركة والطاقة الإيجابية وتبعد الطاقة السلبية، هي تميمة يكاد يكون حضورها مشتركا لدى أكثر الشعوب، فهي كانت منتشرة منذ حضارة المصريين القدماء والصينيين والإغريق، ويوجد منها الكثير بين نقوشهم وآثارهم، وهي إلى الآن حاضرة في تزيين الكثير من أسقف الكنائس وزخارف المساجد وأبواب المنازل، ويقال إنها أول ما ظهرت كانت في منطقة تل براك التابعة لمحافظة الحسكة السورية، كان اكتشافها في سنة 3300 ق.م ضمن التماثيل المكتشفة فيها ذات العيون الكبيرة، المنحوتة والمصنوعة من حجر الألباستر.

Thumbnail

سقت هذه اللمحة عن العين الزرقاء حتى أقرب المتلقي جيداً من الثيمة التي التجأ إليها أغالا، دون أن ينشغل بها بل يغذي قراءته بمقولات يتلقفها من تلك التجربة حتى تسهل له كيفية استكشافها من جديد، فهي ثيمة لا تشيح بوجه وتمسك يده وبنبرة طافحة بالإدانة والفضح يعمد إلى الاهتمام بها فيحاكي القديم ليسهم في النهوض بجديده، فالفكرة هنا تفضح ذواتنا وتكشف تاريخية تصوراتنا لينتج وبإلحاح أن الخلل ليس في الإبداع بل بالذات الطافحة بالحزن واللاحياة.

ولا بد أن نشير أخيراً إلى أن رستم أغالا يدير متحف أغالا في مدينة السليمانية في كردستان العراق، وله أهميته وأثره في تنشيط الدورة الدموية للحركة الفنية على نحو خاص والحركة الإبداعية على نحو عام.

14