رسامون تونسيون يبحثون عن هوياتهم في لوحات تواجه الواقع

معهد الفنون الجميلة بنابل يحرر طلبته من قيود البيداغوجيا إلى حرية الإبداع.
الاثنين 2023/03/06
جسد ثائر بالرقص (لوحة لبلال الشنوفي)

تحفل كليات الفنون الجميلة في تونس بالعديد من المواهب الفنية المهمة، لكنّ كثيرا منها تنطفئ تحت وطأة غياب الحرية وهيمنة الجانب الأكاديمي المدرسي على الجانب التجريبي. ومن هنا كان لا بد من دمج الاثنين معا، ومنح الفنانين الشباب فرصة للتعبير عن ذواتهم وتقديم رؤاهم الفنية والفكرية، وهو ما قام به مؤخرا معرض “مقدمات”.

افتتح معهد الفنون الجميلة بمحافظة نابل التونسية معرضا فنيا لطلبة السنة الثانية رسم بعنوان “مقدمات”، ويستمر المعرض في قاعة العرض محمد بن مفتاح إلى غاية التاسع من مارس.

لوحات متنوعة المواضيع والأساليب يضمها المعرض الذي جاء بإشراف الأكاديمي والفنان التونسي سليمان الكامل، وساهم فيه بأعمالهم بلال الشنوفي وآلاء اليحياوي ومروة مهدوي وآية بيين ودعاء الأمجد وشيماء بالفايز وأحلام الأخضر ومريم الأشطر وإكرام الدريدي وسوسن ساسي وجيهان مطماطي.

تجارب متنوعة

يخرج سليمان الكامل مؤطر الطلبة في هذا المعرض من الملل الأكاديمي الذي يسقط فيه طلبة الفنون الجميلة، ويحول – رغم أهميته – الكثير من المواهب إلى مجرد مدرسيين، إذ لا تمنحه الجامعة مساحة ليبدع أو يجرب أن يعرض عمله للجمهور، تجربة العرض وتعليق العمل بمفردها تخلق تحديا أمام كل رسام في بداياته.

وحاول الكامل الغوص في أعماق طلبته ليداعب الجانب الإبداعي في كل منهم ويحرر أحلامهم وأفكارهم وتطلعاتهم ما أنتج في النهاية لوحات مميزة تنبئ بولادة فنانين جدد، لهم تصوراتهم وانتماءاتهم ولهم من المؤكد لاحقا تحولاتهم في مسار الفن، المهم في النهاية هو التجرؤ على كسر حاجز التردد والذاتية والخروج بالعمل الفني إلى المتلقي وخلق ذلك التفاعل الهام مع الأعمال.

بوكس

المواضيع متعددة لكن يبدو أن الجسد هو أكثر الثيمات تكرارا، فنجده مثلا في لوحات بلال الشنوفي جسدا متحركا بين الكرات والأيدي أو آثار الأصابع الخمسة، بما تعنيه في الميثولوجيات التونسية “الخُمسة” التميمة التي تطرد الحسد، أجساد الشنوفي لا تظهر تفاصيلها بوضوح، لكن التركيز أكثر على حركاتها ورقصاتها، المندفعة والقوية، إذ نجح الفنان في رصد ديناميكية اللحظة، وكأنه يعيد رقصة زوربا الذي فشل مرة في أن يقول فكرته فقام برقصها.

الجسد حاضر أيضا في عمل مروة مهدوي، لكن هذه المرة كشخصيات مثل شخصية الفلاح والعامل، شخصيات مطموسة ملامح الوجه، وتتوزع بين الحركة والجمود، أما الجسد عند شيماء بالفايز في لوحاتها التي تمزج النسيج بالرسم فهو أنثوي تركز فيه الفنانة على الجدائل المنسوجة، والتي تخصص لها لوحات مستقلة تحضر فيها جدائل مختلفة اللون والطول وبلا رؤوس، بينما تغيب الملامح أيضا.

جل الأجساد التي تناولها الفنانون جاءت بلا ملامح في محاولة لفتح هوياتها أكثر على المجهول، ولم نجد ذلك العمل يركز على إبراز الجسد الذكوري والأنثوي، إذ هي في النهاية ذوات باحثة عن هوياتها ومليئة بالحركة، بينما ننظر لها حتى من خلف، كما هو حال المرأة الملتفتة في لوحات بالفايز.

أما لوحات إكرام الدريدي فقد اختارت أن ترسم المكان بأسلوب مسطح، مانحة عناصر المكان لتعبر عن مفارقاتها، بين الموت والحياة، والهدوء والحركة وعالم الموت الأخضر وعالم الحياة الملون.

وتركنا المجال للفنانين الشباب ليتحدثوا عن تجاربهم حول رؤاهم الفنية والفكرية، ورأيهم في التكوين الأكاديمي مقارنة بضرورة منح الفنان الحرية وفرصة التدرب.

بداية يقول بلال الشنوفي لـ”العرب” إن “التكوين الأكاديمي ليس سوى فرصة لتجاوزه هذا هو الدرس الأول. ورشة الرسم ليست للتعلم التقني الانضباطي، بل للتجاوز الحر والشجاع، هذا ما تعلمناه من تجربتنا مع الأستاذ سليمان الكامل، الذي استفدنا من كونه فنانا يشارك في معارض عالمية”.

ويتابع “الثورة والتجديد والتجاوز والتجريب والسؤال المتواصل والشك، هي جملة الدروس التي نتعلمها من المؤسسة الجامعية، لأن بقية المعارف النظرية يمكن تعلمها حتى من الإنترنت، وهي موجودة ومتاحة بسهولة، الأهم هو أن نتعلم الثورة لا اكتساب معارف جاهزة”.

بحرية وشجاعة

◙ جل الأجساد التي تناولها الفنانون في أعمالهم جاءت بلا ملامح محددة في محاولة لفتح هوياتها أكثر على المجهول والمطلق

في حديثه حول رؤيته الفنية والفكرية في عمله، يقول الفنان “كيف نرسم الرقص بعد هنري ماتيس؟ هذا هو السؤال الأساسي في تجربتي، الجسد الراقص هو جسد يتجاوز حدوده الفيزيائية أو يرغب في الامتداد في الفضاء، أي أنه يرفض القالب اليومي المتعارف عليه. الجسد الراقص ثائر بطبعه. شعب لا يرقص شعب لا يثور. لذلك فإن الرقص ليس لهوا فقط، بل فيه من السياسي والاجتماعي شحنات مهمة علينا الاهتمام بها. فالجسد الراقص يتراقص متمنّعا عن اليومي القاتل منفلتا منه، لنا الرقص كي لا تميتنا الهموم اليومية”.

وفي حديثها لـ”العرب” تقول مروة سنان المهدوي “ينبع تفكيري الفني من اهتمامي باليومي المعيش أي أنني شديدة الاهتمام بمعاناة الفلاحين والعمال أو الخادمات المنزليات. مازلنا إلى اليوم نعيش في مجتمعات لا تحترم مكانة العمال وتزدري المهن اليدوية وتتركها في هشاشتها وقلة حيلتها”.

وترى أن من يقومون بالعمل المنزلي أو مهن مثل الفلاحة أو البناء ليسوا إلا نحاتين يصقلون جسم المجتمع ويضيئون وجهه، لذلك فهم كما تقول “أرسمهم تكريما لهم وإيمانا بالشعر الذي يسكن هيئاتهم. أحفر في المادة اللونية بواسطة أدوات حادة للتعبير فتتشكل خربشات تذكّر بجروح وخدوش جسد وروح العامل. أفكر في فن ملتزم بقضايا الشعب والأمة وأحلامه وآماله، أحلم أن أكون فنانة ملتصقة بالواقع ينهل من شِعريتها”.

أما عن رأيها في المسار الأكاديمي للفنان فتقول “لحسن الحظ هذه السنة 2023 ندرس مادة الاختصاص رسم عند الأستاذ سليمان الكامل الذي آمن بضرورة خلق فرص أخرى خارج الدرس الكلاسيكي، فكانت فرصتنا لنعرف من نحن، أي أننا بحثنا عن الفن الذي يسكننا لا عن إجابات تقنية لأسئلة الانضباط البيداغوجي. هنا التكوين الأكاديمي ليس إلا فرصة للتجريب والحفر في الذات بكل حرية وشجاعة”.

المواجهة الفنية

◙ جدائل المرأة هويتها (لوحة لشيماء بالفايز)
جدائل المرأة هويتها (لوحة لشيماء بالفايز)

حول الرؤية الفنية التي انطلقت منها، تقول شيماء بالفايز لـ”العرب”، “في مقاربتي مواجهة واضحة حادة وقطبية بين الرسم والخياطة، أي أنني أحاول استحضار أدوات وطرق فعل الخياط في الممارسة، فيولد العمل من جنسين مختلفين الخط والخيط. كما أني أحاول طرح أسئلة على الرسم في موروفولوجيته وكينونته بهدف تحريره من أشكاله الكلاسيكية، فيستفيد من شعرية الطرق الإجرائية للمهن اليدوية”.

وتضيف “بالإضافة إلى ذلك فإن الفضاء التشكيلي فضاء للاختلافات والتنوع والجدل والمواجهات أيضا. التشكيل في حقيقته ليس إلا تنوعا. في هذه التجربة يقوم شعر المرأة بتعويض صورتها فيصير هويتها، لكل فترة عمرية شعر بألوان مناسبة وحياكات مناسبة وطول وقصر السبلات، يعني لكل لحظة شعرها. الشَعر صورة ‘بورتريه‘ ومرآة تعكس حقيقة معينة”.

أما عن أهمية التكوين الأكاديمي فتقر بأنه من وجهة نظرها لا يمنح الفنان الحرية وفرصة التدرب، إذ أن التكوين الأكاديمي هو منظومة كاملة تقوم على أسس وقوانين مضبوطة من حيث المبدأ أو موضوع العمل الذي عادة ما يكون متفقا عليه ومفروضا على كل الطلبة.

◙ الجانب الأكاديمي لا يتوقف على قاعة الدرس بل هو أيضا في الاحتكاك بالآخر والتفاعل مع العالم الخارجي

وتستدرك بالفايز “إلا أن الفنان من الضروري أن تكون له فرصة للتدرب ومساحة حرة لاختيار مواضيعه بالعودة إلى مراجعه وحياته الخاصة والإبحار في عمقه والبحث عن الملهم في داخله وتوفير مجال له للتدرب خارج أوقات التكوين الأكاديمي لإثبات الذات وخلق وإبداع فن خاص فقط بالفنان وليست فيه تبعية لفنان آخر. كما أن التكوين الأكاديمي لا يتوقف على قاعة الدرس بل إن التواجد في ساحة المؤسسة والنشاط في النوادي والاحتكاك بالطلبة إضافة إلى التفاعل مع العالم الخارجي يمكن أن يساعد على تحقيق ذات وهوية الفنان الذي نحلم به”.

وفي حديثها لـ”العرب” تنطلق إكرام الدريدي من سطر شعري للشاعر الفلسطيني محمود درويش من “الجدارية” يقول فيه “هزمتك يا موت الفنون جميعها”، مبينة أن المواجهة بين الفن والموت قائمة دائمة ومتواصلة.

وتقول “أنا أسكن في تونس العاصمة وأدرس في محافظة نابل، أنتظر الحافلة يوميا في محطة باب عليوة، وكل يوم يشد انتباهي مشهد فيه تناقض صارخ بين قبور الأموات المتراصة في أعلى مقبرة الجلاز وبين حركة الأحياء النشيطة في الأسفل. عالمان متوازيان متناقضان في نفس الفضاء ونفس اللحظة الزمنية. من هنا تأتي الممارسة الفنية لحظة للمواجهة بين التناقضين فيتحول الفضاء التشكيلي إلى حلبة صراع بين الواقع والواقعي بين الحي المعيش وبين شبح الموت الذي ينتظر في الأعلى، هذا المكان الذي يتميز بديناميكية تجمع حركة الناس ووسائل النقل، وكما يعرف يتواجد المستشفى العسكري الذي تقابله مباشرة المقبرة حيث الهدوء والسكينة، إذ تتواجه الحياة والموت ويتبادلان النظرات في حوار وجودي عميق”.

أما عن الجانب الأكاديمي وضرورة منح الفنان الحرية وفرصة التدرب فتقول “حسب نظرتي الشخصية أرى أن التكوين الأكاديمي ضروري للفنان فهو يقوم بتأطيره وصقل موهبته، رغم ما فيه من قيود وحواجز وممنوعات، إلا أنه يظل فرصة للتجريب والتعلم من الأخطاء. أريد أن أشكر أستاذي الفنان سليمان الكامل على مجهوده معنا وخلقه مساحة من الحرية والثقة أنتجت معرضا باسم مقدمات”.

وتضيف “مازلنا في البداية وهذه التجربة ليست مجرد تعلق بالأحلام، بل يمكنها أن تصير حقيقة، صحيح أننا نعيش في بلد  يعيش صعوباته ونواجه منظومة تعليمية لها مشاكلها، لكننا سننجح”.

 

13