رسائل الصداقة والسلام بين الرباط وتل أبيب

المغرب يقدم نفسه كشريك إستراتيجي متمكن من كل الملفات الإقليمية، وعليه فإن ترسيخ العلاقات المغربية – الإسرائيلية في ظل الظروف الإقليمية والعالمية هو امتداد لصيرورة تاريخية من الفعل الدبلوماسي المتزن والمتوازن.
الثلاثاء 2023/08/01
تحركات الدبلوماسية المغربية اليوم هي ترجمة متقدمة لمغرب النموذج التنموي الجديد

بخطوَات تاريخية واثقة ورؤية سياسية واضحة وبمواقف دبلوماسية راسخة على المبادئ غير القابلة للتجزيء أو التّفاوض، مُرتكزةً على مَعاييرَ رفيعة تنهل من القِيم الإنسانية الخَالدة والتزامات الأمَّة المَغربية الدائمة بالانخراط الفعلي والجَاد والمسؤول في القضايا الإنسانية العادلة وخدمة أهداف السَّلام الدولي، عزّزت المملكة المغربية حُضورها الإقليمي وأكدت على دَورها العالمي الجديد كقوة إقليمية صاعدة تُؤثر بشكل إيجابي في كل المَلَفات التي تتداخل مع اهتماماتها والتزاماتها التاريخية والحضارية، باختيار نهج دبلوماسي مُتكامل يَرنو للحفاظ على مَكانتها ودَورها التاريخي كَحاضرة كُبرى للتعايش الإنساني.

المملكة المغربية كانت لها الشجاعة والجرأة أن تتخذ قرارها السيادي بإقامة علاقات دبلوماسية سياسية واقتصادية مع دولة إسرائيل قبل سنتين ونيف، على إثر الاتفاق الثلاثي بين المغرب والولايات المتحدة وإسرائيل، الذي يمكن اعتباره انتصارا سياسيا للدبلوماسية المغربية تجسد في الاعتراف الأميركي بالسيادة المغربية على الأقاليم الجنوبية، هذا الانتصار السياسي والدبلوماسي الكبير الذي تحقق بتوقيع الاتفاق الثلاثي لم يكن فقط نتيجة للجهود الدبلوماسية المكثفة وطويلة المدى بين الدول الثلاث، وإنما هو نتيجة منطقية لطبيعة العلاقات البينية بين الدول الثلاث، التي تربطها علاقات ذات أبعاد متعددة تشمل التطابق في وجهات النظر على المستوى السياسي والشراكات الاقتصادية ذات الآفاق الواعدة والمستدامة، ثم التنسيق المشترك على جميع الأصعدة وفي جميع المجالات، تؤطرها رؤية متبصرة لطبيعة التحديات والرغبة الأكيدة في اتخاذ مسارات صحيحة بعيدة عن الصراعات التصادمية، أو العمل على التلاعب بأمن الشعوب خدمة لمصالح جيوسياسية ضيقة، حيث أثبتت المملكة عبر هذه الخطوة وفاءها لدورها التقليدي عبر تاريخ الأمة المغربية كدولة راعية للسلام والأمن في العالم وأرض للتعايش والسلام، وأثبتت أنها تمتلك تصورا جد متقدم لتحقيق الاستقرار الإقليمي من بوابة التنمية المستدامة للشعوب، ونبذ الصراعات المجانية وتبديد الموارد الاقتصادية في الحملات التضليلية المشبوهة والسياسات العدائية التي تنهل من القاموس النمطي المتهالك لمفردات الخطاب السياسي لخمسينات القرن الماضي وستيناته، بشروطه الذاتية والموضوعية المتجاوزة في عصر الحدود المفتوحة والذكاء الاصطناعي والتقدم التكنولوجي الهائل والتطور المعرفي المتسارع.

◙ صياغة القرار الدبلوماسي الإستراتيجي بحكم أبعاده المتعددة يتطلب دراسة معمقة وتحليلا دقيقا لجميع الانعكاسات المحتملة على المديين القصير والبعيد، وعلى مختلف المستويات

 في رسالة إلى العاهل المغربي الملك محمد السادس، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اعتراف دولة إسرائيل بسيادة المغرب على كامل أراضيه في الأقاليم الجنوبية للمملكة المغربية، مع الإشارة إلى التفكير بشكل جدي في فتح قنصلية إسرائيلية بالداخلة استكمالا للخطوات العملية المدرجة في الاتفاق المغربي – الإسرائيلي – الأميركي في ديسمبر 2020.

يقوم القرار الإسرائيلي الأخير المتعلِّق بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، على مبادئ العقلانية والواقعية في التعامل مع التطورات التي يعرفها عالم ما بعد كورونا، وتداعيات صراع المحاور على الأمن العالمي، وكذا المكتسبات التي راكمها المغرب سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وتنمويا في الصحراء المغربية. هذا القرار في عمقه يهدف إلى ضمان المصالح العليا لكل من الشعبين المغربي والإسرائيلي على حدِّ سواء، حيث يفتح آفاقًا جديدة للعلاقات بين البلدين، وذلك من خلال العمل على عدة مسارات مختلفة؛ مثل التعايش الإنساني، والانسجام في المواقف، والتطابق في وجهات النظر، وتنويع مجالات التنسيق والعمل على ترقية العلاقات الدبلوماسية، وتعزيز العلاقات الاقتصادية، وذلك بهدف تحقيق أهداف إستراتيجية ستؤثر إيجابًا على الأمن والاستقرار في منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط على حد سواء، وتساهم في ضمان السلم والاستقرار العالمي.

لذا فاعتراف إسرائيل بمغربية الصحراء في هذا التوقيت هو استكمال لمسار سياسي ابتدأته تل أبيب مع الرباط وفق الاتفاق الثلاثي بين المغرب والولايات المتحدة وإسرائيل، والذي يفتتح بموجبه الجانبان فصلا جديدا من التعاون والتنسيق في جميع المجالات، وفق المصالح العليا للشعبين المغربي والإسرائيلي على حد سواء، كما أنه يندرج في إطار النجاحات الكبرى التي حققتها وتحققها الدبلوماسية المغربية خاصة مع النجاح الكبير لنهج “دبلوماسية القنصليات” في ترسيخ سيادة المغرب على صحرائه. فقرار فتح 28 دولة لقنصلياتها في الصحراء المغربية يعكس التزاما دوليًا قويًا بدعم سيادة المغرب على هذه المنطقة، ويمثل إشارة إيجابية إلى المجتمع الدولي بأسره بشأن موقفه من هذا الصراع، ويكرّس حالة الإجماع الدولي والإقليمي على اعتبار مبادرة الحكم الذاتي كأساس وحيد للحل الواقعي والجاد وذي المصداقية للنزاع المفتعل، حيث تمت تزكية هذا الموقف من قبل القرارات الأممية والولايات المتحدة والمواقف الداعمة من اللاعبين الكبار في السياسة الدولية إلى جانب أطراف دولية وقارية أخرى.

في جانب آخر نجد الرسالة الملكية إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تعكس الالتزام الكامل والانخراط الفعلي للمملكة المغربية في مسار بناء علاقات دبلوماسية فاعلة ومتوازنة مع تل أبيب، حيث أن  القرار الإسرائيلي الأخير القاضي بالاعتراف بالسيادة الكاملة للمغرب على الصحراء المغربية يجسد هذه الصداقة ويبرهن على صدق النوايا والأفعال، هذا القرار الذي أثنت عليه الرسالة الملكية واعتبرته قرارا صائبا ومتبصرا، ستكون له انعكاسات جد إيجابية على تطور العلاقات بين الرباط وتل أبيب ومآلات التعاون في شتى المجالات والقطاعات.

فالرسالة الملكية يمكننا اعتبارها إطارا مرجعيا جديدا للدبلوماسية المغربية، سيحدد طبيعة العلاقات الثنائية مع إسرائيل ومجالات اشتغالها وفق التزام ملكي ثابت وراسخ بدعم كل المبادرات التي ترنو لتعزيزها، كما أنه يقدم دفعة كبرى للجهود المبذولة للرقي بهذه العلاقات بما يتناسب والروابط المتينة التي تربط المغرب مع إسرائيل، بوجود جالية مغربية مهمة في إسرائيل لازلت تربطها أواصر البيعة مع العرش العلوي والانتماء لأرض الوطن.

◙ الانتصار السياسي والدبلوماسي الكبير الذي تحقق بتوقيع الاتفاق الثلاثي لم يكن فقط نتيجة للجهود الدبلوماسية المكثفة وطويلة المدى بين الدول الثلاث، وإنما هو نتيجة منطقية لطبيعة العلاقات البينية بين الدول الثلاث

العاهل المغربي الملك محمد السادس في ذات الرسالة يوجه الدعوة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي لزيارة المغرب، مما سيعطي للعلاقات المغربية – الإسرائيلية شكلا مؤسساتيا مبنيا على شراكات طويلة الأمد، قد ترقى في مرحلة قادمة إلى حوار إستراتيجي، يشمل جميع مجالات التعاون الممكنة، وتؤكد الرسالة على رغبة المغرب ملكا وحكومة وشعبا في تطوير هذه العلاقات وتعزيزها لترقى إلى شراكة إستراتيجية.

الرسالة أيضا تؤكد على الدور الإستراتيجي الذي يمكن للمغرب أن يقوم به في ملف السلام بالشرق الأوسط، من خلال تقريب وجهات النظر مع التمسك بالمبادئ التوجيهية التي تحكم آليات تسوية النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي وآفاقها؛ فالدبلوماسية المغربية وفق التوجيهات الملكية تُمَوْقِعُ المغرب كقوة إقليمية فاعلة في محيطها الإقليمي، وتؤكد على استعدادها اللامشروط لاستثمار حضورها المتميز وشبكة علاقاتها في تعزيز فرص السلام والأمن، فهذه الخطوة ليست مجرد إجراء دبلوماسي روتيني عادي كما يتوهم البعض، بل هي خطوة كبرى تهدف إلى تحقيق الاستقرار في المنطقة، وتعزيز التعاون بين الشعبين المغربي والإسرائيلي، حيث أن المغرب من خلال تعميق علاقته مع الجانب الإسرائيلي وفق قواعد دبلوماسية واضحة بإمكانه لعب أدوار طلائعية وفاعلة في سبيل إنجاح فرص السلام في الشرق الأوسط، بسبب العديد من العوامل أهمها المصداقية والمسؤولية والوضوح التي تميز الدبلوماسية المغربية، كما أن الحضور الدائم للمغرب في النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي من خلال ترؤس الملك محمد السادس للجنة القدس، التي تترجم حرصه على حماية المقدسات الإسلامية والمسيحية واليهودية في القدس والأراضي الفلسطينية، تعتبر حلقة وصل بين المساعي السياسية التي يقوم بها الملك محمد السادس والعمل الميداني الذي تقوم به وكالة بيت مال القدس، تحت الإشراف الشخصي والفعلي للعاهل المغربي.

 قرار إسرائيل الاعتراف بمغربية الصحراء يمثل خطوة إستراتيجية مهمة في تعزيز العلاقات الثنائية بين المملكة المغربية وإسرائيل، وهو نتاج للجهود المتواصلة في الرباط وتل أبيب من أجل تعزيز التعاون والتفاهم المشترك، فهذه الخطوة تعكس الرؤية المتبصرة للعاهل المغربي في تدبير المملكة المغربية لسياستها الخارجية، وفق مبادئ راسخة ترتكز على الالتزام بمبادئ الشرعية الدولية والقانون الدولي، مع العمل الجاد للحفاظ على السلم والاستقرار في العالم من خلال التعاون مع كافة الدول التي تتشارك مع المملكة المغربية نفس المبادئ والأهداف، حيث أن تطوير العلاقات الثنائية سيساهم في تعزيز التعاون بين البلدين في مختلف المجالات، بما في ذلك التعاون في مجالات التجارة الخارجية والفلاحة والاستثمار والسياحة والتعليم والعلوم والتكنولوجيا.

من وجهة نظري يجب تناول موضوع الاعتراف الإسرائيلي من مدخلين أساسين؛ أولهما، أن هذا الاعتراف كما أكدنا سابقا في هذا المقال هو تكريس لديناميكية عمل متوازنة برؤية دقيقة، تشتغل من خلالها الدبلوماسية المغربية على فرض واقع سياسي جديد يكرس للسيادة المغربية على الأقاليم الجنوبية بعنوان “دبلوماسية القنصليات”، حيث أنه الإطار الحقيقي لإدراج الاعتراف الإسرائيلي، لأن تل أبيب اليوم تلتحق بالعشرات من العواصم في العالم التي اتخذت مواقف واضحة لا تحتمل اللبس من قضية الوحدة الترابية للمملكة المغربية، وعليه فالمغرب ملكا وحكومة وشعبا لديه التزام أخلاقي بتعزيز علاقاته مع أيّ دولة تخرج من المنطقة الرمادية والمواقف الانعزالية إلى رحابة التعاون والسلام والتنسيق لخدمة الشعوب ورفاهيتها وازدهارها.

◙ المملكة المغربية كانت لها الشجاعة والجرأة أن تتخذ قرارها السيادي بإقامة علاقات دبلوماسية سياسية واقتصادية مع دولة إسرائيل قبل سنتين ونيف، على إثر الاتفاق الثلاثي بين المغرب والولايات المتحدة وإسرائيل

ثانيهما، هو صياغة هذا القرار الدبلوماسي الإستراتيجي بحكم أبعاده المتعددة يتطلب دراسة معمقة وتحليلا دقيقا لجميع الانعكاسات المحتملة على المديين القصير والبعيد، وعلى مختلف المستويات، سواء كانت سياسية، اقتصادية، أمنية أو غيرها، لذا فهو عملية معقدة تتطلب توافر المعلومات اللازمة والتحليل الدقيق للوضع الراهن والتوقعات المستقبلية، وتحديد الأهداف المرجوّة والسيناريوهات المختلفة، وتحليل النتائج المترتبة على كل سيناريو. حيث قد يتأثر هذا القرار الدبلوماسي الإستراتيجي بالعديد من العوامل المتعلقة بالسياسة والاقتصاد والأمن والشؤون الداخلية والخارجية وعلى هذا الأساس فقد تم اتخاذ قرار تطوير هذا المسار الدبلوماسي من طرف العقل الإستراتيجي المغربي بحكمة مدروسة وبقراءة دقيقة مستفيضة لكل التطورات بشكل يتوافق مع المصالح العليا الإستراتيجية للشعب المغربي، مما يتطلب جهود التعبئة والتعاون والتنسيق لتوفير الدعم اللازم لتنفيذه ومتابعة النتائج عن قرب.

وفي نفس السياق لا يمكننا تناسي الدور المركزي للمملكة المغربية في نصرة القضايا العادلة في الملف الفلسطيني والذي يندرج في إطار الالتزام الكامل للمملكة المغربية والملك محمد السادس باعتباره رئيس لجنة القدس المنبثقة عن منظمة المؤتمر الإسلامي، بدعم القضايا العادلة في الملف الفلسطيني والحفاظ على المقدسات الإسلامية في القدس، واحترام حرية ممارسة الشعائر الدينية لأتباع الديانات السماوية الثلاث، وحماية الطابع الإسلامي للمدينة المقدسة وحرمة المسجد الأقصى، ودعم جهود تحقيق السلام في منطقة الشرق الأوسط، حيث أنها مواقف ثابتة ورسالة واضحة للداخل والخارج بأن المغرب ينتهج دبلوماسية الوضوح والشفافية والدفاع عن المصالح القومية العليا وفق مبدأ احترام حقوق الآخرين، بشكل ينزع صفة الوكيل التجاري عن بعض الكيانات والأنظمة والتنظيمات والجماعات والأحزاب التي جعلت من القضية الفلسطينية أصلا تجاريا لاستخدامه وقت الحاجة لخدمة مصالح جيوسياسية وانتخابية ضيقة، حيث يترجم هذا الموقف الثابت الشعور الجماعي للشعب المغربي الملتف بكل ثقة حول قيادته وقراراتها ومواقفها.

المغرب يقدم نفسه كشريك إستراتيجي متمكن من كل الأوراق والملفات الإقليمية بشكل دقيق، وعليه فإن ترسيخ العلاقات المغربية – الإسرائيلية في ظل الظروف الإقليمية والعالمية الحالية هو امتداد لصيرورة تاريخية من الفعل الدبلوماسي المتزن والمتوازن، واستمرار للعقيدة الدبلوماسية المغربية التي أصبحت مدرسة عالمية في تدبير العلاقات السياسية والاقتصادية بين الدول الصديقة.

تحركات الدبلوماسية المغربية اليوم هي ترجمة متقدمة لمغرب النموذج التنموي الجديد الذي يجسد اختيار مغرب الجرأة والتمكين الذي لا رجعة فيه في الانفتاح على محيطه الإقليمي والدولي والالتزام الدائم بالدفاع عن القضايا المشتركة، والمساهمة في رفع التحديات العالمية بشكل مسؤول، فهذا الاختيار يساهم في إشعاع المغرب انطلاقا من خصوصيات المملكة المغربية وتفرد سياقاتها وثوابتها ومقدساتها وإصرارها على احترام سيادتها ووحدتها الترابية في تدبير علاقاتها مع العالم.

9