رحلة العائلة المقدسة إلى مصر يعاد تشكيلها فنيا

تعوّدت مصر على تنظيم معرض “رحلة العائلة المقدسة” منذ العام 2006، ثم توقّفت من بعد بسبب الاضطرابات التي صاحبت ثورة يناير في مصر، وها هو يعود مرة أخرى بثوب جديد وبمشاركة ستين فنانا من 17 دولة. ولكن هذه المرة تحت وطأة الإغلاق الذي سببه وباء كورونا.
تَذكُر المرويات المسيحية أن أحد العرافين قد تنبأ للحاكم الروماني بفلسطين هيرودتس أن نهايته ستكون على يد طفل صغير من أهل مملكته، فراح هيرودتس يقتل كل من يولد في حدود فلسطين حتى يمنع تحقّق هذه النبوءة. في تلك الأثناء ولد السيد المسيح، وخوفا عليه من بطش الحاكم فرّت والدته السيدة العذراء مريم إلى مصر.
ترتبط هذه الرواية الدينية بالعديد من التفاصيل عن الأماكن التي مرّت بها السيدة العذراء مع رضيعها بصحبة يوسف النجار من الناصرة في فلسطين وحتى استقرارها لسنوات في صعيد مصر، مرورا بصحراء سيناء وغيرها من الأماكن الأخرى التي ذكرتها هذه الروايات. وقد عرفت هذه الرواية في التاريخ المسيحي برحلة العائلة المقدسة.
وتبدو بعض تفاصيل هذه الروايات الدينية التي جاءت في الكتاب المقدّس عند المسيحيين قريبة الشبه بما جاء في القرآن الكريم عند المسلمين، وتُعدّ معاناة السيدة العذراء مريم أحد القواسم المشتركة بين الديانتين، إذ يجتمع المسلمون والمسيحيون معا على حبهم وتقديرهم للسيدة مريم العذراء، التي يُنظر إليها دائما كنموذج للزُهد والتضحية والورع.
من وحي هذه الرحلة المقدسة التي خاضتها السيدة مريم العذراء ورضيعها إلى مصر قدّم أكثر من ستين فنانا وفنانة من 17 دولة أعمالهم الفنية في القاهرة تحت عنوان “رحلة العائلة المقدسة”، وهي الدورة الخامسة التي تقام تحت هذا العنوان، لكنها المرة الأولى التي يتم تنظيمها عبر الواقع الافتراضي، نظرا لحالة الإغلاق العام الذي تشهده قاعات العرض في مصر بسبب وباء كورونا. ونظّم المعرض الفنان المصري شادي أديب سلامة، وهو صاحب الفكرة منذ البداية.
وعبّرت الأعمال المشاركة عن رؤية أصحابها لرحلة العائلة المقدسة، كل حسب رؤيته الخاصة وأسلوبه الفني، فمنهم من تناول الفكرة من منظور مُباشر، بينما فضل آخرون تلمّس روح الحكاية وصوغها عبر سياقات مجردة أو رمزية أو حتى عبر صياغات طريفة أحيانا.
الأعمال المشاركة في المعرض عبّرت عن رؤية أصحابها لرحلة العائلة المقدسة، كل حسب مرجعياته وأسلوبه الفني
ويطرح المعرض إلى جانب فكرته الرئيسية عددا من الأفكار الأخرى التي تتمحور حول فكرة التعايش بين الديانات والثقافات المختلفة، والبحث في ما بينها عن نقاط التواصل المُشتركة، بديلا عن التنافر والعداء في ما بينها.
ويرى مُنظم المعرض شادي أديب سلامة، أن العالم يحتاج بالفعل هذه الأيام إلى استحضار مثل هذه النماذج المُشتركة التي نحمل لها جميعا قدرا كبيرا من التقدير. والسيدة العذراء هي أوضح نموذج يمكن البناء عليه في هذا الصدد على مستوى العقيدة الدينية، فهي تمثل عاملا مشتركا بين المسلمين والمسيحيين جميعا، وهي محل تقدير وتبجيل لدى أتباع الديانتين. وعن ذلك يقول سلامة “لأجل ذلك ضم المعرض أعمالا لفنانين مسلمين ومسيحيين عبّروا عن هذا الموضوع بأساليبهم المختلفة، لكن المتأمّل للأعمال لا بد له أن يلحظ شيئا مشتركا في ما بينها، هذا الشيء هو ما يحمله الجميع من تقدير وإجلال للسيدة العذراء”.
ويضيف أن العرض الافتراضي ساهم في تحويل معرض “رحلة العائلة المقدسة” إلى عرض دولي، حيث تقدّم عدد من الفنانين العرب والأجانب للمشاركة بالمعرض عند الإعلان عنه عبر الإنترنت، ولفت إلى أنه سيتم تحويل العرض الافتراضي إلى عرض واقعي بعد زوال الأزمة.
من بين الفنانين المشاركين في هذا المعرض الفنان هشام نوار، الذي يعرض لوحة مرسومة بالألوان المائية على الورق. واختار نوار أن يتعامل مع الشكل على نحو مجرّد مع التركيز على العناصر الدالة والرمزية لهذه
الرحلة، فخلافا لصورة السيدة العذراء والمسيح ويوسف النجار، تتشارك في المشهد معهم ثلاثة عناصر أخرى مرتبطة بالرواية الدينية لهذه الرحلة، وهي الحمار الذي استخدماه في السفر، والشجرة التي استظلا تحتها، والأسماك التي استعانا بها كمؤونة لهم أثناء الرحلة، وكلها عناصر تحمل رمزية دينية توظف عادة على هيئة أيقونات ورموز في الفن الشعبي في الكثير من الثقافات.
هذه العناصر الثلاثة نفسها كانت عاملا مشتركا لعدد آخر من الأعمال المعروضة، كعمل الفنان شادي أديب سلامة منظم المعرض الذي قدّم لوحته المرسومة على ورق معاد تدويره، لكنه أضاف إلى المشهد بعض العناصر المرتبطة بالحضارة المصرية القديمة. وكذلك عمل الفنانة ريتا كيفوركيان من مصر أيضا. بينما ركّز البعض الآخر على صورة العذراء مع طفلها كعمل الفنانة إيمان حكيم، مثلا.
ولم يقتصر المعرض على أعمال التصوير والرسم فقط، بل ضمّ كذلك أعمالا غرافيكية كعمل الفنانة فاطمة درويش، وأعمال فوتوغرافية كعمل الفنانة هايدي معروف.
ومن بين المشاركين عرض الفنان محمود سليمان في مجال الكمبيوتر غرافيك واحدة من بين أبرز الأعمال المشاركة، حيث استلهم الفنان في عمله روح الأعمال الكلاسيكية في عصر النهضة التي تناولت الموضوع نفسه مع توظيف الشكل في إطار معاصر، مركزا الاهتمام على صورة السيدة العذراء وطفلها، بينما يظهر في الخلفية صورة السيد المسيح رجلا.
ولم يقتصر تناول رحلة العائلة المقدسة على المرويات المسيحية فقط، إذ قدّمت الفنانة شيماء كامل عملها المرسوم بخامات مختلفة على الورق مستلهمة إياه من آيات القرآن الكريم. ضم عمل كامل مقاطع من سورة مريم مُحاطة بمعالجات لونية مجردة.
ومن إيطاليا قدمت الفنانة أنتنيلا ليوني توظيفا آخر للنصوص والكتابات الدينية من خلال عملها الذي يجمع بين الكتابات والرسوم، إذ تضمنت لوحتها المشاركة بعض مقاطع من الكتاب المقدس. ومن لبنان شاركت الفنانة لينا كليكيان بعمل مرسوم على الخشب بخامة التمبرا الذهبية. كما شارك في المعرض أيضا فنانون من بيرو وتشيلي والفلبين وبولندا، وسبعة فنانين من رومانيا.
وشاركت الفنانة ريتش ديثليفسن من الدنمارك بعمل يحمل نوعا من الطرافة، إذ صوّرت السيدة العذراء وهي تحمل المسيح على عربة أطفال حديثة إلى جوار أهرامات الجيزة.
ويقول منظم المعرض الفنان شادي أديب سلامة “تعود فكرة المعرض إلى عام 2006 حين نُظمت دورته الأولى تكريما لذكرى والدي أديب سلامة”، وهو كاتب مصري معروف وله العديد من الأبحاث حول رحلة العائلة المقدسة، وتحوّلت إحدى رواياته إلى فيلم سينمائي للمخرج خيري بشارة وهو فيلم “يسوع بمصر”.