"ربيع الفنانين" يجمع مبدعين من مصر والعالم لدعم قضايا اجتماعية مهمة

اجتمع عدد من الفنانين في معرض “ربيع الفنانين”، فقدموا لوحات عن الأمهات العازبات وأطفال الشوارع، تنظر لهذا العالم الغريب والمؤلم نظرة فنية، تبحث عن الجمال الذي يولد من رحم القبح والمعاناة، لكنها لا تكتفي بالرصد الفني وإنما تخصص العوائد من المبيعات لتحسين أوضاع أكبر عدد ممكن من هذه الفئة من المجتمع.
يتهم الفنانون التشكيليون أحيانا بتعاليهم عن الواقع وبأن ما يقدمونه من أعمال فنية غير مفهوم ولا يعبر عن الواقع كما يراه العامة الذين ترغب السياسات الثقافية للدول على اختلافها في تثقيفهم وتوعيتهم. قد تكون هذه الفكرة صحيحة في جانب منها، لكنها لا تعني أن ليس هناك محاولات من فنانين تشكيليين للاندماج في المجتمع والتعبير عنه بالريشة واللون والنحت وحتى تخصيص ريع الأعمال للمساعدة في النهوض بالمجتمع.
هذا ما تتبعه تظاهرة “ربيع الفنانين” التي دأبت منذ سنوات على تنظيم معرض بالعنوان نفسه (ربيع الفنانين)، يجمع مبدعين من مصر والعالم، ينعقد في القاهرة ويخصص أرباحه لدعم الفنانين المعاصرين، لكنه يدعم كل عام فئة أو قضية محددة من المجتمع المصري.
يأتي معرض “ربيع الفنانين” في دورته السابعة التي انعقدت في وقت سابق من هذا الشهر في القاهرة برعاية السفارة الفرنسية، مستهدفا دعم الفنانين المعاصرين وتوجيهه لصالح أطفال الشوارع والسيدات المعيلات.
تنوع كبير
في النادي الدبلوماسي الواقع في قلب العاصمة المصرية القاهرة، تتجاور أعمال نحو 80 فنانا تشكيليا وفوتوغرافيا، منهم ناشئون ومعاصرون، من جنسيات مختلفة منها فرنسا وهولندا وأيرلندا وبولندا وسويسرا وأوكرانيا والصين والهند والعراق ولبنان والسودان.
ولا تقتصر الأعمال المعروضة البالغ عددها نحو 400 عمل فني على اللوحات المرسومة فقط، بل تشمل منحوتات وصورا فوتوغرافية وأعمال الخزف والوسائط المتعددة.
بدأت أعمال معرض “ربيع الفنانين” عام 2017، كحدث غير ربحي تأسس على يد سيدتين فرنسيتين عاشتا في مصر، لترك بصمة إيجابية في مصر، وأصبح منذ ذلك الحين حدثا فنيا وخيريا يدعم الفنانين المعاصرين الذين يعيشون في مصر، كما يدعم جمعية خيرية محلية ذات تأثير اجتماعي قوي، إذ ينظم المعرض لصالح مؤسسة “ساموسوسیال أنترناسيونال” في مصر، ويشارك هذا المعرض في تنشيط المشهد الفني وتوفير المساعدات المالية للفئات الأكثر حرمانا.
وتشارك في تنظيم المعرض الفني هذا العام 10 متطوعات من 9 جنسيات مختلفة، هن مقيمات في القاهرة.
وفي دورته الحالية، شهد المعرض مشاركة دولية أكبر من السابق كانت بهدف تعزيز مهمته الأصلية في أن يصبح ملتقى للتبادل بين المجتمعات، ويقام في النادي الدبلوماسي التاريخي، الذي جمع مجتمعا عالميا منذ نشأته عام 1908 بأسلوبه الكلاسيكي الذي يجعله مكانا تاريخيا جذابا.
وقالت أنطوانيت دربي، إحدى المتطوعات في “ربيع الفنانين”، إن المعرض ليس عملا فنيا فقط، ولكنه تطوعيا تنمويا وله أهداف غير ربحية لتعميق وتطوير الأهداف التي أنشئ من أجلها، مؤكدة أن المعرض هذا العام استقبل أعمال 350 فنانا اختير منهم 80 فنانا من بينهم فنانون شباب ومعاصرون كبار، وسيعرض 400 عمل فني من مختلف المدارس الفنية.
وأوضحت دربي في تصريح لـ”العرب” أن اختيار “ربيع الفنانين ليكون عنوانا قارا للمعرض، يعود إلى أنه ينعقد سنويا مع بداية فصل الربيع في مصر، وهو معرض تفاؤلي يأخذ من الربيع صلته المباشرة بعودة الحياة للأرض واخضرارها بعد فترتي الخريف والشتاء، وما يحمله هذا الاخضرار من إيحاء بأن الفن قادر على المساهمة في تغيير المجتمع نحو الأفضل”.
وأوضحت أنطوانيت وهي فرنسية مقيمة في مصر، لـ”العرب” أن “معظم الفنانين المشاركين في المعرض هذا العام من مصر، قادمون من محافظات مختلفة منهم من جاء من الإسكندرية والصعيد والدلتا، وهذا العام يشارك فنانون دوليون أكثر من العام الماضي، وهم 16 فنانا من آسيا وأوروبا وأفريقيا، موضحة أن 60 في المئة من الفنانين هذا العام يشتركون لأول مرة في المعرض، كما أن 76 في المئة من الأعمال المشاركة هي لوحات فنية، و14 في المئة أعمال نحت”.
وفي حين يشارك فنانون من العراق والأردن ولبنان ودول الخليج العربي، أوضحت المتطوعة أن غياب فناني المغرب العربي عن المشاركة في هذا المعرض لا علاقة لإدارة المعرض به “فقد نشرت الإدارة بيانا لتشجيع الفنانين التونسيين والجزائريين والمغاربة والليبيين على المشاركة لكنها لم تتلق أي طلب، وهو ما لا يعرف سببه خاصة وأن المعرض لا يعد حديثا بل استطاع خلال دوارته الست السابقة أن يخط لنفسه اسما في الحراك التشكيلي في مصر”.
وأضافت أن البعد الدولي للمعرض ليس فقط على مستوى التنظيم، ولكن على مستوى الشركاء، وهذه الشراكة تؤكد العمل التطوعي وغير الربحي للمعرض، موضحة أن هذا العام شهد زيادة أعداد الفنانين العارضين بنسبة 44 في المئة عن العام الماضي، وكذلك زيادة عدد الأعمال المعروضة بنسبة 40 في المئة، كما تضاعف حضور الفنانين العالميين بمقدار 4 مقارنة بالعام الماضي.
المعرض، وفق ما يوضحه البيان المصاحب له، غير ربحي وهو مخصص لدعم أطفال الشوارع والأمهات العازبات ويستهدف إتاحة الفرصة لفنانين في مصر وفتح الساحة الفنية أمامهم، وكذلك منح الفنانين الدوليين فرصة المشاركة في النشاط الثقافي في مصر وعرض مدارس أخرى للرسم.
أساليب مبهرة
يشارك في هذا المعرض العشرات من الفنانين، كل له أسلوبه الخاص، منهم نحاتون ورسامون ومصورون فوتوغرافيون، يرون الفن بقناعات مختلفة، ويختارون المدارس الأقرب إليهم في نقل الأفكار والتعبير عنها، لكنهم في هذا المعرض يلتزمون بالحديث عن عالمي المرأة والطفل في مصر وتحديدا الأم العزباء وطفل الشوارع وما يرتبط بهما من تفاصيل حياتية وعلاقات اجتماعية، بعضها في الريف وآخر في حياة المدن الصاخبة، بعضها طبيعي والآخر يوضح حجم المأساة التي تمر بها هذه الحالات الإنسانية والتي يتزايد عددها جراء الأوضاع الاقتصادية في المجتمع.
ترصد بعض اللوحات المعروضة في “ربيع الفنانين” الشوارع والمباني القديمة. في بعض اللوحات تبدو المدينة “ساحقة، قاهرة” ومهيمنة على مزاج الناس فيها، شوارعها بيوت لمن لا مأوى له، وشمسها كاشفة لآلام النساء اللواتي أجبرتهن الحياة على تربية أطفالهن بمفردهن، يتحملن من أجلهم القيض والاستغلال والابتزاز.
يحضر الريف والمدينة أحيانا بصورتيهما الحقيقيتين اللتين ترصدهما عدسات المصوريين الفوتوغرافيين المشاركين في المعرض، وأحيانا أخرى بمنحوتات تعبر عن أجزاء لا تتجزأ من مكونات الحياة في مصر، وكذلك تحضر على هيئة رسوم هندسية ورسومات تجريدية، في حين يقدم الفنانون غير المصريين بعض الأعمال الواقعية التي تعيد تشكيل المدن الكبرى حول العالم، وتنقل صورة عنها وعن الأمهات والأطفال الذين يعيشون هناك.
من المصوريين الفوتوغرافيين المصريين، تحضر لوحات الفنان وائل حمدان، المعروف بحبه لتصوير شوارع القاهرة وخاصة القديمة منها. وهو في هذا المعرض يصور شارع المعز الشهير بلون أصفر فاقع يكشف تأثير الإضاءة على المباني، وعلى أمزجة الناس. كما أنه يتتبع الحركة في هذا الشارع الأثري القديم.
تشارك أيضا الفنانة نور حسين بلوحات ترسم فيها المدينة بألوان مبهجة، ألوان تخون حقيقة الإنشاءات المعمارية ذات الألوان الباهتة، وهي توثق البعض من ملامح صعيد مصر بمساجده وأضرحته وسكانه المختلفين عن المحافظات المصرية الأخرى، بينما تصور مدينة الإسكندرية بمسرحها الروماني الشهير، تخنقها الحركة المرورية وتحولها إلى مدينة تصعب الحركة فيها.
في “ربيع الفنانين” تنقل الأعمال صور النساء الموجودات في مدن مصر كما في أي مكان آخر من العالم، في الماضي أو الحاضر. بعضهن يلتزمن بضوابط المجتمعات وأخريات يسعين إلى التحرر، فيضعن مساحيق التجميل الملونة ويلبسن ملابس مثيرة ويكشفن عن مفاتنهن.
وللتعبير أكثر عنهن، لجأ بعض الفنانين إلى تصوير أيقونات نسائية، بعضهن فنانات تحدين المجتمع الذكوري وقيوده ليتبعن شغفهن، وبعضهن أساطير تاريخية ترمز للحرية النسوية. من هؤلاء الفنان وائل حمدان الذي يعرض لوحة بعنوان “ست الكل بامبا كاشار” في إشارة إلى راقصة شرقية مشهورة من بداية القرن الماضي. كانت تعتبر أيقونة في الجمال، كرست حياتها للرقص الشرقي والسينما، متحدية المجتمع.
ولأن الثيمة العامة للمعرض نسوية بامتياز، فإن أغلب المشاركين فيه هن فنانات، ومن بينهن الرسامة الشابة ندى شريف التي ترسم نضال المرأة اليومي، ركوبها الدراجات النارية، وتبدو نساءها بأجسام مشوهة وملامح جريئة، جاهزة لخوض المغامرات وتحدي الأعراف والتقاليد.
لا يمكننا المرور على كل التجارب الفنية المشاركة في هذا المعرض، لكن يمكننا القول إنه معرض تفاؤلي، لا يركز على الجوانب الموحشة في حياة الأمهات العازبات وأطفال الشوارع، بل ينقل للمتفرج سعيهن الدؤوب للتغلب على الحزن والألم وشرور الحياة، ومحاولاتهن المستميتة لتغيير واقعهن وعدم السكون والرضا به، وهو ما يحاول القيمون على المعرض أن يكونوا جزءا منه.