رابح درياسة يلحق بالنجمة القطبية إلى البعيد

فقدت الجزائر برحيل الفنان رابح درياسة قبل أيام واحداً من القامات الكبرى في الموسيقى الراقية والرسالية التي باتت عملة نادرة في زمن اختلطت فيه المعايير الفنية والذوقية، لكن قيمة الرجل المخضرم هي التي أكسبته احترام جميع الأجيال الجزائرية والمغاربية، ولا زالت بعض أغانيه وألحانه تتردد بدون منافس ولا منازع، خاصة تلك التي تحتفي بالوحدة الوطنية والشعبية وتعبر عن الأفراح، كالتتويج في شهادة البكالوريا أو انتصارات منتخب كرة القدم.
عاش الفنان الراحل لوطنه ولشعبه، فغنى للحب وردد قصائد العشق العفيف وللجمال، كما غنى للفلاح وللناجحين في شهادة البكالوريا ولانتصارات منتخب كرة القدم وللوحدة الوطنية والشعبية، وللحجاج وللحرية، فكان يقاسم وطنه وشعبه أفراحه وأحزانه، وصدح بصوته الشجي في مسارح وصالات عربية، أمام قادة عرب، فكان بذلك سفير الأغنية الجزائرية في العالم العربي، لأنه من بين الفنانين القلائل الذين غنوا باللغة الفصحى أو المهذبة التي تفهم من المحيط الى الخليج.
زخرفه الزجاج والناي
درياسة ورغم حبه للزخرفة وفن المنمنمات، لم يكن ليستغني عن ميوله الشعرية، فبدأ منذ ريعان شبابه في نظم الأشعار وتلحينها ليغنيها في ما بعد مطربون كبار على غرار صايم لخضر، عبدالوهاب سليم، بلاوي الهواري ونورة قروابي
ولد درياسة في العام 1934 ببلدة الروابح بمحافظة عين الدفلى قبل أن يستقر مقام العائلة في مدينة البليدة، وكانت بداية مسيرته الفنية والمهنية بممارسة حرفة الزخرفة على الزجاج، وهي الهواية التي مارسها لمدة 15 سنة، وقد لاقت أعماله إعجاب نقاد الفن آنذاك ما أهله للمشاركة في عدة معارض بالجزائر وفرنسا ابتداء من عام 1952، فكان حاضرا بأعماله في معارض العاصمة والبليدة وباريس وميتز، وفاز بجائزة “جول فيري” في صالون الفنانين الجزائريين والمستشرقين في فرنسا.
ورغم حبه للزخرفة وفن المنمنمات، لم يكن ليستغني عن ميوله الشعرية، فبدأ منذ ريعان شبابه في نظم الأشعار وتلحينها ليغنيها في ما بعد مطربون كبار على غرار صايم لخضر، عبدالوهاب سليم، بلاوي الهواري ونورة قروابي.
ابتدأ مسيرته الفنية بالتوجه نحو أداء الأغنية البدوية الصحراوية، على ما تتطلبه من قدرات صوتية عالية وامكانيات فنية معتبرة، فأدى أطول القصائد والأشعار، كما هو الشأن بالنسبة إلى رائعة “حِيزِيّة”، التي تروي قصة حب بدوية خلال منتصف القرن التاسع عشر بين حِيزِيّة وسعيّد، وخلدها الشاعر الشعبي محمد بن قيطون بقصيدة طويلة كان الفنان الراحل أحد الذين غنوها.
وتذكر بعض الروايات بأن العام 1953 كان محطة مفصلية في حياة درياسة الفنية، فمشاركته في برنامج “من كل فن شوي” الإذاعي للفنان محمد الحبيب حشلاف، فتحت له الطريق واسعا للتعبير عن قدراته الفنية وللشهرة، ومنذ ذلك التاريخ لم ينقطع عن إنتاج أعمال فنية له ولغيره من الفنانين الذين عرفوا النجاح عبر كل الجزائر.
وفي سبعينات القرن الماضي برز برنامجه الشهير “ديوان الألحان” الذي نال سمعة طيبة وشهرة فائقة، فقد جمع عددا من الفنانين البارزين آنذاك، على غرار الفنانة القديرة سلوى والمطربة ثلجة ومريم وفاء والفنان الفكاهي جعفر بك، بمعية قائد الجوق والفرقة الموسيقية الفنان المبدع معطي بشير، كما كان منشطا لبرنامج “ألحان وشباب” الذي تخرج منه عدد كبير من فناني الجزائر.
صاحب الألف لحن
ألحانه وكلمات أشعاره التي مجدت الأخلاق والتضامن والمديح النبوي والغزل العفيف مع حب الوطن، كانت السر في نجاح أعماله التي جاوزت الألف عنوان ومن روائعه “حزب الثوار” و”الحوتة” و”نجمة قطبية” و”فرحة الحجاج” و”وردة بيضاء” و”يا الخمرية” و”يحياو ولاد بلادي” و”أنا جزايري” إضافة إلى “جابوها جابوها”.
كان درياسة من الفنانين المدافعين عن التراث الشعبي الجزائري، فأعاد الحياة إلى كنوز ثمينة من هذا الأدب ومنها “راس بنادم” و” الموؤودة” للشيخ سيدي لخضر بن خلوف، و” قمر الليل” لعبدالله بن كريو و”راشدة” لعبدالقادر المغربي. وبذلك كان سفيرا حقيقيا للأغنية الجزائرية، خاصة في العالم العربي، حيث أدى العديد من روائعه في الأسابيع الثقافية لبلاده في مختلف العواصم.
رحل درياسة بعد أن كرس من عمره 60 عاما لخدمة الفن والأغنية الجزائرية، فرغم أنه كبر يتيم الوالدين، وهو الذي فقد أمه في سن 12 ووالده في سن 15، فقد تحمل مسؤولية العائلة وبقي وفيا لمواهبه وميولاته الفنية.
وهو ما برز من خلال بصمته على الأغنية الشعبية التي طبعها بطابعه الخاص، بعدما مزج بين مختلف الأنماط الشعبية من البدوي والعلاوي والصحراوي وغيرها، فكان النجاح حليفه، حيث تهافت الجمهور على اقتناء الأسطوانات الصادرة تباعا، خاصة وأن الجمهور اكتشف توجها جمع بين الأصالة والمعاصرة، وحافظ على الكلمات الراقية والرسالية، فتصدر بذلك لائحة فناني زمانه.
وبعد الاستقلال واصل درياسة مسيرته الفنية مستندا إلى شعبيته الكبيرة، خاصة بعدما تناول موضوعات وطنية واجتماعية لأعماله الفنية، فكان بذلك واحدا من المؤلفين والملحنين الواعدين، حيث منح لقب سفير الأغنية الجزائرية، وكان ممثلها في عدة محافل عربية في العراق ومصر وسوريا والكويت والعربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ولبنان فضلا عن بلدان المغرب العربي، وفي سنة 1975 وجه له مدير مسرح الأولمبيا دعوة ليكون على رأس قائمة الحفلات الخاصة بنجوم العالم العربي والمبرمجة لأول مرة.
برنامجه الشهير "ديوان الألحان" حظي بسمعة طيبة وشهرة فائقة، فقد جمع فيه عددا من الفنانين البارزين آنذاك على غرار الفنانة القديرة سلوى والمطربة ثلجة ومريم وفاء والفنان الفكاهي جعفر بك بمعية قائد الجوق والفرقة الموسيقية الفنان المبدع معطي بشير
وكان رحيل درياسة مؤثرا ومؤلما لنخب جزائرية من مختلف التوجهات، فكتبت الروائية أحلام مستغانمي تدوينة في حسابها الرسمي على فيسبوك قالت فيها “غادرنا أسطورة الفن الجزائري الفنان رابح درياسة المبدع الشامل، شاعر ومغن ومؤلف موسيقي، آخر عمالقة الزمن الجزائري الجميل، الذي ساهم في تشكيل وجداننا القومي بعد الاستقلال، بما قدم من أغان سعى من خلالها لتقوية اللحمة الوطنية بين مختلف المناطق في الجزائر ومحاربة الجهوية”.
وأضافت مستغانمي “كنت محظوظة بلقاء الراحل الكبير سنة 2017 في مناسبة نظمها الديوان الوطني لحماية حقوق المؤلف لمحاربة قرصنة الأعمال الإبداعية. وأذكر أنه كان عاتبا على الدولة وعلى السلطات الثقافية، ويشعر بمرارة بسبب الإهمال الذي عانى منه منذ انسحابه من الساحة الفنية. كنا معظم وقت الاحتفالية معا، كان أنيقا كعادته، مكابرا، مدركا لمقامه، رفض الإدلاء بأي تصريح، رحمه الله وجعل ما قدمه لوطنه ولأمته في ميزان حسناته”.
أما الكاتب والإعلامي إحميدة العياشي فقد كشف في تدوينة له هو الآخر أن درياسة في نهاية السبعينات، تمت محاربته واختزاله في أنه كان بوقا لهواري بومدين، وأغلق في وجهه التلفزيون والإذاعة، مما جعله ينسحب من الساحة الفنية ويتفرغ للرسم والمنمنمات.
وألمح العياشي إلى أن درياسة سرد له كيف حورب آنذاك، وكيف اضطر إلى أن يختفي ويصمت لفترة طويلة، وأكد في منشوره على أنه شكل تيارا تجديديا داخل مشهد الأغنية الجزائرية التي زاوجت بين التراث والعصرية، وجعل منها فن العائلة الجزائرية وتعبيرا عن جانب من جوانب الجمالية الجزائرية الفنية ما بعد الكولونيالية، سواء على صعيد الخطاب الشعري أو الموسيقي.
أما سليم دادة فقد كتب أيضاً “بعد محمد العماري وإيدير، تغادرنا أيقونة أخرى من أيقونات الغناء في الجزائر، وفي الوطن العربي، وكيف لا درياسة سجل اسمه من حروف من ذهب في صرح الموسيقى الجزائرية، خصوصا في سنوات 1970 – 1980، حتى أن صيته ذاع في كل الوطن العربي من الشرق الأوسط إلى المحيط”.
ووصفه بأنه الشاعر والملحن والرسام والمغني الذي تميز بفصاحة اللسان وبخامة صوتية تجمع ما بين “آي ياي” البدوي الصحراوي وغناء الظهرة، والذي نجح أيما نجاح في الجمع بينهما ضمن قالب عصري، متناولا بذلك مواضيع عاطفية اجتماعية ووطنية وتحسيسية بمقاربات شعرية خارجة عن المألوف.
عقاب قديم
وأكد الكاتب والوزير والدبلوماسي السابق كمال بوشامة خلال مراسم جنازة درياسة أن الجزائر ودعت منارة من منارات الأدب والفن، وأن علاقة الصداقة والمصاهرة التي جمعته به أتاحت له فرصة التعرف عليه عن قرب. وأن الفقيد فنان شامل، ملحن وأديب وشاعر، لن تعرف مثله الساحة الفنية مستقبلا، فهو أول من عرّف العالم العربي بالأغنية الجزائرية الأصيلة وحببهم فيها.
شهادات المثقفين الجزائريين تجمع على أن درياسة رحل وفي حلقه غصة مما لحقه من تهميش وإقصاء مبرمج من طرف تيار لا يروقه تسويق الأغنية الجزائرية الأصيلة إلى الحاضنة القومية العربية للجزائر
وتجمع الشهادات التي أدلى بها فاعلون في الشأن الفني والثقافي الجزائري بأن فقيد الفن الرسالي الراقي بالجزائر، رحل وفي حلقه غصة مما لحقه من تهميش وإقصاء مبرمج من طرف تيار لا يروقه تسويق الأغنية الجزائرية الأصيلة إلى الحاضنة القومية العربية للجزائر، كما كانت أغانيه التي أداها في مناسبات عدة خلال سبعينات القرن الماضي بمثابة العقاب له لأنها تترجم توجها سياسيا أراد خصومه تصفيته وإزالة تركته.
لكن الذي يؤرق هؤلاء أن درياسة الذي رحل عن عالم الأحياء لا يستطيع أحد ملء فراغه على الأقل في الوقت الراهن، فقد استطاع ترجمة أفراح الجزائريين ووحدتهم والتغني بهم وبأمجاد الوطن، في الروائع التي أداها وسلمها للأجيال كي ترددها في الجزائر وفي المغرب العربي، وحتى ابنه عبدو لم يستطع تعويض لمسة والده، فقد يكون الله قد وهبه صوتا شبيها، لكنه
لا يملك تلك الجينات المكتسبة التي جمعت بين تذوق ونظم الكلمة والقصيدة والناي وحتى الأنامل والريشة التي اكتسبها الوالد الراحل.