رؤية ملكية مستنيرة لمغرب الجدية والتمكين (1)

المسيرة الخضراء هي ملحمة إنسانية كبرى عبّرت بوضوح تام عن عبقرية الإنسان المغربي وشخصيته المتفردة وقدرته على الخلق والإبداع والإنجاز والانحياز إلى مبادئ السلم والأمن العالمي في زمن التقاطبات الأيديولوجية والعنف المسلح والمواجهات العسكرية المفتوحة والصراع المجنون. المسيرة الخضراء نجحت في استرداد الأرض المقدسة والحفاظ على شرف الأمة وتاريخها المجيد دون أن تسفك قطرة دم واحدة فوق ترابها المقدس أو أن تطلق رصاصة واحدة غادرة على أكثر من ثلاثة مئة وخمسين ألف مغربي ومغربية لبّوا بنظام وانتظام وبحماسة وطنية جياشة نداء أب الأمة القائد الرمز المغفور له الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه من أجل تنظيم مسيرة شعبية شاركت فيها كل مكونات الشعب المغربي ووفود من مختلف دول المعمور آمنت بعدالة القضية، ليتحول الحدث التاريخي الكبير إلى عرس حضاري عالمي تناقلته مختلف وسائل الإعلام في العالم وتتبّعته مختلف الدوائر الفاعلة الدولية، هو حدث علّم الإنسانية جمعاء أرقى معاني ارتباط الشعوب بقيادتها وقدّم للعالم أعظم صور إيمان الشعوب بالسلام، وهو ما عبر عنه الملك الحسن الثاني في خطاب نداء المسيرة 10 أكتوبر 1975 قائلا: "شعبي العزيز قد تبادلت أنت والعرش، قد تبادلتم الوحي، مرارا مواقفك أوحت للعرش انتفاضات، ومرارا إحساسات وتقييمات ملوكك أوحت لك بأعمال، ودائما هكذا شعبي العزيز كنا نصدر لبعضنا البعض من أين تمر طريق الكرامة وطريق النصر وطريق الاعتزاز بالمغربية".
◙ الخطاب الملكي بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء المظفرة وضع قواعد اشتباك جديدة وسطّر خارطة طريق تنموية مبتكرة لصيرورة ملف الوحدة الترابية
لكي نضع حدث المسيرة الخضراء في سياقها الحقيقي كملحمة إنسانية كبرى ستبقى مصدر فخر واعتزاز لكل مغربي ومغربية عبر التاريخ، فقد جاءت كرد إنساني من أرض مقدسة وشعب عظيم وملك يمتلك كل مواصفات الشخصيات الفاعلة في التاريخ الإنساني بعد عقود عاشها العالم من الحروب والقتل والدمار، فقد انطلقت رسالة المسيرة الخضراء بعد عقدين من نهاية الحرب العالمية الثانية بدمارها الكبير وبجرحها الغائر في خاصرة البشرية، وبجرائم الحرب المشينة التي ارتكبت خلالها في حق الإنسانية، وبشكل متزامن مع حرب فيتنام التي هي الأخرى عرفت مآسي كبرى، وبعد ثلاث سنوات من حرب أكتوبر في إطار الصراع العربي - الإسرائيلي، وبعد عقدين من العديد من انتفاضات الاستقلال المسلحة وحروب التحرر العسكرية من براثن الاستعمار، فقد كان المزاج العالمي في حاجة إلى واحة سلام وإلى حدث إنساني يعيد للإنسانية روحها وحقيقتها. وكذلك كان، حدث المسيرة الخضراء نال إعجاب العالم بأسره وحصد مواقف مؤيدة من مختلف الشعوب والدول في العالم، لكن طيور الظلام وخفافيش الموت ومحور الشر الإقليمي المتشبع بالفكر التوسعي ومنطق الهيمنة الإقليمية التجأ إلى المؤامرة الكبرى بتزييف الحقائق والكذب البواح وتأجيج نزعات الانفصال ودعم معاول الهدم والدمار، لتفرض على الأمة المغربية حربا خاضها أبناؤها من الرجال الأفذاذ في القوات المسلحة الملكية بكل بسالة وشرف وإباء ضد شرذمة الخونة والمتآمرين والمُجرمين والجَواسيس والأوبَاش وألْقاطِ الصّحراء وأوقاشِ لحْمَادة وأخلاطِ القَوم وأرَاذِلُ النَّاسِ من القَتَلَة وقُطَّاع الطُّرُق ومُمتَهِني التَّهريب والاتّجَارِ في البشر والمُدَلِّسين ومحترفي الكذب البَوَاحِ والتَّضليل ومن وراءهم من الأنظمة الوظيفية الشمولية كنظام هواري بومدين ونظام معمر القذافي في معارك سطرها بفخر أسود الجيش المغربي بمداد من الذهب سيذكرها التاريخ كأحد أعظم الانتصارات العسكرية التي عاشتها الأمة المغرب طوال آلاف السنين، وبشكل مواز كانت الدبلوماسية المغربية تخوض معارك حقيقية على كل الواجهات والمواقع من أجل دحض أكاذيب المرتزقة وأراجيفهم البئيسة والدفاع عن المقدسات الوطنية، في نفس الآن كانت الإرادة المغربية الصلبة تبني وتعمّر وتؤسس المدن والمداشر تحت نيران العدو الغاشم ومؤامرات أذيال الاستعمار لتهزم بشرف وتحد وتضحية معاول الهدم والخراب والدمار.
صحيح أن حسم المعركة العسكرية قد تم وفق قواعد اشتباك واضحة وضعها المغرب لحماية المصالح العليا للشعب المغربي والأمن القومي للوطن، فقد استمرت المعركة الدبلوماسية إلى حدود كتابة هذه الأسطر حيث عرفت مختلف عواصم القرار العالمي والقاري والإقليمي مواجهات سياسية كبرى انتهت بتقزيم الطرح الانفصالي وتثبيت السيادة المغربية على أقاليمنا الجنوبية في عملية دبلوماسية نوعية مستمرة في الزمان والمكان سيتوقف التاريخ طويلا ليحكي يوما عن بطولات رجال ونساء الدبلوماسية المغربية والمصالح الخارجية من عمل نوعي كبير وتضحيات جسام في سبيل إحقاق الحق وخدمة المصالح العليا للشعب المغربي وفق الرؤية الملكية المتبصرة وهو ما أكد عليه خطاب العاهل المغربي الملك محمد السادس في الذكرى الثامنة والأربعين للمسيرة الخضراء المظفرة قائلا “كما مكنت تعبئة الدبلوماسية الوطنية، من تقوية موقف المغرب، وتزايد الدعم الدولي لوحدته الترابية، والتصدي لمناورات الخصوم، المكشوفين والخفيين".
الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى الثامنة والأربعين للمسيرة الخضراء المظفرة وضع قواعد اشتباك جديدة وسطّر خارطة طريق تنموية مبتكرة لصيرورة ملف الوحدة الترابية بعيدا عن الحلول الكلاسيكية المتجاوزة حيث حدد بشكل جلي مسار البوصلة التي يجب على كل المتدخلين والفاعلين في هذا الملف سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي السير عليه في أفق تحويل الصحراء المغربية إلى منصة اقتصادية رائدة إقليميا جاذبة للاستثمار المستدام وإلى مجمع لوجستيكي عملاق للربط البري والجوي والبحري بين ثلاث قارات وأسواق عالمية كبرى قد يتجاوز عدد سكانها 3 مليارات نسمة.
◙ التوجه الأطلسي للدولة المغربية ليس وليد اليوم بل هو استمرار لصيرورة تاريخية وحضارية ضاربة جذورها في عمق تاريخ الأمة المغربية
التوجه الأطلسي للدولة المغربية ليس وليد اليوم بل هو استمرار لصيرورة تاريخية وحضارية ضاربة جذورها في عمق تاريخ الأمة المغربية، فمن مدينة المعمورة على الواجهة الأطلسية كانت الإمبراطورية الموحدية في القرن الحادي عشر الميلادي تحمي بأساطيلها امتداد المغرب الإيبيري وكذلك كل الإمبراطوريات التي حكمت المغرب كالمرينيين والسعديين والعلويين خاضت حروبا كبرى لتحرير الثغور الأطلسية المحتلة كالعرائش ومازاكان وطنجة وأغادير وماسة وبوجدور وغيرها من المدن، ومن الواجهة الأطلسية كانت تنطلق سفن الجهاد البحري حيث فرضت البحرية المغربية لقرون حصارا أطلسيا في ضفتي المحيط على كل السفن المشاركة في التجارة الثلاثية وانطلاقا من إدراك الدولة العلوية المجيدة المبكر لأهمية العمق الأطلسي للمغرب فقد قام السلطان العلوي سيدي محمد بن عبدالله ببناء مدينة الصويرة - موكادور - كميناء أطلسي يشكل حلقة وصل بين المغرب وأفريقيا وباقي دول المعمورة وكفضاء للتعايش الإنساني بين مختلف مكونات الشعب المغربي، كما كان قراره التاريخي بالاعتراف باستقلال الولايات المتحدة الأميركية يندرج في إطار هذا الاتجاه الاستشرافي الأطلسي للمغرب منذ قرون خلت وهي الحقيقة التي أكدها الملك محمد السادس في خطاب الذكرى 64 لثورة الملك والشعب سنة 2017 قائلا “ومن هنا فإن التزام المغرب بالدفاع عن قضايا ومصالح أفريقيا ليس وليد اليوم. بل هو نهج راسخ ورثناه عن أجدادنا، ونواصل توطيده".
واليوم الملك محمد بن الحسن يجدد العهد على خطى أسلافه الميامين لربط الماضي المجيد بالحاضر التليد حيث قرر إطلاق رؤيته المستنيرة لربط المغرب عبر الأقاليم الجنوبية بفضاء قاري أطلسي يتكون من 23 دولة أفريقية تطل على الواجهة الأطلسية تشكل 40 في المئة من دول القارة الأفريقية بـ55 في المئة من الناتج الداخلي الخام للقارة الأفريقية و57 في المئة من التجارة الحرة بالقارة وهو ما عبر عنه الملك محمد السادس في خطابه بأن “غايتنا أن نحوّل الواجهة الأطلسية إلى فضاء للتواصل الإنساني، والتكامل الاقتصادي، والإشعاع القاري والدولي”. وهذا لن يتأتى إلا باستكمال الأوراش التنموية العملاقة التي أطلقها المغرب في إطار النموذج التنموي الخاص بالأقاليم الجنوبية وباقي الإستراتيجيات القطاعية الكبرى سواء في مجال البنية التحتية أو في المجالين الاقتصادي والاجتماعي حيث أكد العاهل المغربي على حرص المغرب على بناء “اقتصاد متكامل قوامه، تطوير التنقيب عن الموارد الطبيعية في عرض البحر؛ ومواصلة الاستثمار في مجالات الصيد البحري؛ وتحلية مياه البحر، لتشجيع الأنشطة الفلاحية، والنهوض بالاقتصاد الأزرق ، ودعم الطاقات المتجددة".