رؤية مغايرة لما فعله العمانيون في زنجبار

في روايته الأحدث التي كتبها بالعربية، اختار عبدالعزيز بركة ساكن اسم “سماهاني” وهي كلمة في اللغة السواحلية المحكية في زنجبار تعني بالعربية “المعذرة” أو “المسامحة”، نسأله عن سبب هذا الاختيار خصوصا وأن هذه الكلمة غير مطروقة عربيا، ليقول “إن الرواية تدور في زنجبار وشرق أفريقيا وهي منطقة سواحلية، اللغة الأساسية فيها السواحلية، فهذا ترميز للمكان وترميز اجتماعي لأن اللغة جزء من الشكل الاجتماعي.
ويحمل العنوان في ذات الوقت معنى بعيدا يدخل في عمق اللغة بحيث ‘سماهاني’ لها جذر عربي هو ‘سامحني’، والسواحلية لغة فيها الكثير من الألفاظ العربية وهذا يعطي معنى آخر للعلاقة العربية الأفريقية والتحولات التي حدثت للمنطقة نفسها، باتجاهين مختلفين، التأثير العربي على اللغة، وفي ذات الوقت التأثير الأفريقي.
فريسة الخداع
الاهتمام بالأدب العماني هو السبب الذي قاد عبدالعزيز بركة ساكن إلى “سماهاني”، حين انتبه إلى كونِه فريسةَ الخداع بعد دراسته للعلاقة بين العمانيين والزنجباريين، كان يظن أن الفكرة قائمة على أن العمانيين “أصحاب فضل” في زنجبار، حتى وقع على كتاب “مذكرات أميرة عربية” لسالمة بنت سعيد، التي تعتبر أن “الرق ليس جريمة حيث يعتبر الأفريقيُّ العمانيَّ سيدا له، فهو ليس الصديق أو الأخ من منطلق الدين”، هذا الطرح ساقَ الكاتب نحو بحثٍ مُعمَّق على مستويات عدة تشريحا للبنية الاجتماعية خلال الوجود العماني في زنجبار فكانت “سماهاني”.
اختار الروائي منطقة “زنجبار” وهذه المنطقة كما هو معروف محاذية للساحل الآسيوي العربي، لكنه ردد كثيرا فكرة الهوّية الأفريقية الأصلية في المكان. هنا نسأل بركة ساكن، هل تحمل زنجبار حقيقة الهوية الأفريقية في المكان؟ ليقول “إن أقدم الهجرات إلى زنجبار جاءت من آسيا بدءا من الصين، لكن أشهر المجموعات الآسيوية التي دخلت زنجبار هم الإيرانيون الذين أعطوا المكان اسمه، فزنجبار هي كلمة مركبة من كلمتين ‘زنج وبار’ التي تعني ‘بر الزنج’، وبعدها تتالت الهجرات نحوها بأهداف مختلفة، فكانت الحملات الأوروبية والعربية العُمانية وغيرها، لكن أصل السكان أفارقة من حيث الجغرافية والثقافة.
انتقالا للحديث عن التاريخ، قدم بركة ساكن رواية تستند إلى تاريخ مختلف عليه، ونرى أنه لجأ إلى الرواية المعاكسة ليبني عملا أدبيّا متكاملا، لكنه ينفي ذلك بقوله “إن الرواية ليست معاكسة للتاريخ أو رؤية مغايرة لما حدث”، يؤكد أنه يملك في مكتبته بالنمسا 35 كتابا عن زنجبار، يختار واحدا معنونا بـ”زنجبار، تاريخها وشعبها”، لمؤلفه وليام هارولد انغراوز، الذي بدأ إهداء الكتاب للسلطان خليفة بن حارب سلطان زنجبار ورعاياه، لكنه يضم معلومات مغلوطة عن تاريخ المكان من حيث الشكل الاجتماعي، فمثلا حين يتحدث عن العبودية والشكل والمعاملة مع الزنجباريين، فإنه يصف أهل المكان بالمتوحشين، هذا خاطئ بالمجمل، والرواية تريد أن تقول العكس تماما.
|
نناقش بركة ساكن في هذا المحور بالطرح القائم على مبدأ “المركز والهامش”، فصاحب “سماهاني” متهم بالانحياز للهامش على حساب المركز في روايته حول زنجبار، ليقول إن “المركز هو صاحب اللغة وصاحب الحضارة وهو المسيطر اجتماعيا وبالتالي بحسب هذه النظرية، فإن السلطة هي جانب اجتماعي باعتبار أن المركز صاحب الدين أيضا”، يستدرك ضيفنا “أنه في زنجبار يسقط فهم الهامش والمركز انطلاقا من دراسة البنية المجتمعية في تلك البلاد سنجد أنه قائم على خليط من السحر والشعوذة والديانات الأفريقية وقليل من الإسلام، وبالنتيجة فإن تأثير السكان الأصليين برغم الاحتلال كان أكبر من القادمين العمانيين”.
الاحتلال العماني
توصيفه للوجود العماني في زنجبار بالاحتلال، يقودنا للحديث عن الطرح القائم على فكرة “الفتح الإسلامي”، لينفي ساكن هذا الطرح مؤكدا أنه لم يكن فتحا بالمطلق وإنما سيطرة قائمة على مبدأ الاستغلال المادي والبحث لمجموعة من الأفراد ضد مجتمع بالكامل، يستحضر هنا الروايات حول بيع الزنجباريين تحت عنوان الرق والعبيد، حيث تم بيع أكثر من 90 بالمئة من السكان الأصليين، يستدل على ذلك بكتاب صادر عن دار الجمل موسوم بـ”مذكرات أميرة عربية” لسالمة بنت سعيد، وكتاب “مغامر عماني في أدغال أفريقيا” لحمد بن محمد بن جمعة المرجبي المعروف بـ”تيبو تيب”، وبالتالي بناء على هذا ينفي بركة ساكن التفرقة في التعامل مع الشخصيات بين الأفريقي والعُماني في الرواية، كلاهما تم تناوله ضمن منظور الطرح في العمل الأدبي.
الحديث عن فكرة الاحتلال تطرح صورة الدكتاتور في شخصية تقوم على ساقَين كما قدهما بركة ساكن، فالسلطان منتسِبٌ إلى النبي سليمان بحسب شجرة العائلة من جهة، ومن جهة أخرى هو منغمس بملذاته الكاملة في الجنس والطعام والمال. هنا أراد الكاتب أن يبني مستويين من السرد الخارجي والداخلي، الخارجي ذلك المتعلق بنقطة ارتكاز بين الدكتاتور وحاشيته والرعية ككل، والداخلي ينطلق من الدكتاتور نحو عوالمه الشخصية.
وعن هذا يقول الكاتب السوداني إنه اشتغل على هذه الشخصية بالكثير من الصبر معتمدا على تصويرها بشكل كاريكاتوري ساخر، لجأ خلاله إلى السحرية من خلال التعامل مع المسرح والسينما، لكنها- أي شخصية الديكتاتور- تقارب الواقع في أماكن كثيرة، فالدكتاتور له وجهان، الأول بقناع ديني مبني على فكرة الفتوحات الإسلامية ونشر الدين واللغة العربية، والثاني هو الاستغلالي المستعمِر الذي يريد الاستفادة من الثروات الموجودة تحت أي مسمّى.
ننتقل للحديث عن فكرة الانتقام المسيطرة على شخصيات الزنجباريين في الرواية، إن كانت دعوة لمواجهة الشر بالشر، نواجه بركة ساكن بذلك، ليتساءل “من صاحبُ الحق في المسامحة؟”. ويضيف أن “المتنازل عن حقِّه هو شخص ضعيف، الإنسان يتنازل عن حقه عندما لا يستطيع الحصول عليه فيضيع ذلك الحق بإحساس القهر، أما القوي فهو القادر على المسامحة، يستحضر هنا كل الشعوب التي أُجبرت على نسيان الماضي الاستعماري أو تجاهله تحت ذريعة المسامحة، يصفها بالشعوب المغدورة التي تعرضت للقهر ولم تسعفها أي عدالة”.
وفي جغرافية الرواية هناك مكان محدود واضح المعالم والبنية الاجتماعية لساكنيه، نسأل ضيفنا عن مدى استخدامه للمكان المحدود باعتباره مكانا مفتوحا على كل الأرض، له نظير أو مقارب في مشارق العالم ومغاربه في الجغرافيا والتاريخ، ليقول إنه “طرح كل ما ورد في ‘سماهاني’ لأنه يتحدث عن الإنسان، ينحاز للإنسان أينما كان”.
فبركة ساكن كشخص لا يهتم بتاريخ زنجبار كتاريخ، إنما يهتم بما فعله الإنسان بأخيه الإنسان في أماكن متعددة، يضرب أمثلة عن ذلك ما فعلته فرنسا بالجزائر أو بلجيكا بالكونغو، الإنسان الذي يدعي الإنسانية والتحضُّر قادمٌ من وراء البحار نحو بلاد أخرى ليسلب السكان الأصليين جمال المكان وقيمته تحت ذرائع عديدة.