رأي آخر في مؤتمر قمة بغداد

كل الذين قالوا كلاما كبيرا عن نجاح مؤتمر قمة دول الجوار العراقي، أو الذين بالغوا في الحكم عليه بالفشل التام، إما مغرضون منحازون إليه أو ضده، أو أنهم من الأجانب الذين لم يجرّبوا العيش في عراق الميليشيات، ولم يقرأوا خارطة الواقع العراقي بعناية ليكتشفوا أن المؤتمر كان محاولة عراقية مخلصة ومُضنية لإقناع دول الجوار العربية، ومن ورائها حليفاتُها الإقليمية والدولية، بالقبول بالعراق وهو إيراني خالص دون تغيير.
ولمن يريد مزيدا عن المؤتمر وأهدافه المرسومة عليه أن يسترجع تصرفات حسين أمير عبداللهيان، وزير خارجية الحرس الثوري، وهو يفصح، بعنجهيةٍ وصلف، عما لم يجرؤ على أن يفصح عنه الداعي للمؤتمر، رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي.
فقد تعمّد أن يخوض في أخطر خصوصيات الشأن الوطني العراقي الخاص، وكأنه مكلّف بأن يبلغ الضيوف، وجها لوجه، بأن العراق عراقُهم، وعلى من يريد أن يدخله وهو آمن إما أن يقبل، صاغرا، بالوِصاية الإيرانية عليه وعلى المنطقة، أو أن يستعد لصواريخهم ومسيَّراتهم التي لا ترحم ولا تنتهي.
وقد يكون الوزير، وبالصورة الاستفزازية التي ظهر بها في صف ملوك الدول والرؤساء والأمراء، أراد أن يحذر الكاظمي من أن يذهب بعيدا في التبشير بفكرة إعادة العراق إلى عمقه العربي، وخاصة السعودي والإماراتي تحديدا.
ثم استغل النظام الإيراني فرصة عقد هذا المؤتمر القزم الذي يفترض أنه للتهدئة والحوار وتبريد الجبهات المشتعلة، فوجه رسائل صاروخية إلى دول الجوار، ورسائل أخرى متعجرفة أطلقها على الضيوف ممثل الحرس الثوري، متعديا على كل قواعد النظام المتبعة في مثل هذه المؤتمرات.
ثم، وزيادة في التعالي والعجرفة والعنجهية تعمّد في كلمته أن يترحّم على القتيل قاسم سليماني، وهو يعلم أن ضيوف المؤتمر، كلَهم، مؤمنون بأنه قاتل العراقيين والسعوديين والإماراتيين والأردنيين والكويتيين والبحرينيين، دون منازع.
ثم بكى على قتلى الحشد الشعبي في الحرب الكونية ضد داعش، وأهمل، متعمدا أيضا، شهداءَ الجيش العراقي، ودورَ الحلفاء الأجانب، وخاصة الأميركيين. كما لم يُضمّن خطبتَه ولو كلمةً واحدة عن تضحيات أهالي المحافظات المحررة ومعاناتهم، وهم الذين دفعوا الثمن الأكبر في أيام احتلال داعش لمحافظاتهم، ثم في المعارك التي دارت، بعد ذلك، على أيدي الميليشيات التي احتلت المحافظات المحررة، واستبدّت بها، وعبثت وظلمت ونهبت واغتصبت بأكثر مما فعله الدواعش.
ونيابةً عن رئاسة جمهورية العراق وحكومته وبرلمانه وشعبه، وبلهجة المتصرف بملكه الخاص، أعلن إصرار النظام الإيراني على نهج القتيل سليماني، ووبَّخ الكاظمي لعدم دعوة بشار الأسد، وطلب أن يخرج من الأراضي العراقية آخر جندي أميركي و(أجنبي)، ولكن مع بقاء الحال الإيراني في العراق على حاله.
سؤال مهم، هل كان يمكن أن تساعد سياسات الضيوف العرب القديمة والجديدة تجاه العراق على تثبيت حالة الاستقرار في العراق، وبالتالي في المنطقة، عقب الانسحاب الأميركي المنتظر من الأراضي العراقية، مثلما ردّدت فضائياتهم وصحفهم، خصوصا وأن أغلبهم يتبنون سياسيين عراقيين سنة، ماليا وسياسيا وحتى تسليحا، رغم علمهم بأنهم فاسدون مبغوضون من طائفتهم، نفسها، ومنفّرون مُستفِزّون لطواف أخرى؟
شيء آخر. إن جميع الذين تحدثوا في المؤتمر حاولوا إفهامنا أن محاربة الإرهاب هي هدفهم الأول، من أجل الحيلولة دون انجرار العراق إلى فوضى على الطريقة الأفغانية، وهم يعلمون بأن الإرهاب القادم من أفغانستان ليس له سبيل للعبور إلى العراق، ومنه إلى المنطقة، إلا إذا سمحت إيران بمروره، وربما بدعمه وتسهيل مهمته.
ومجرد دعوة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لحضوره، (وقد أناب عنه وزير خارجيته)، يعني أن المؤتمر مصمم للتعارف وتبادل الأحضان والقبلات، وليس لصنع القرار، وذلك لأن الإرهاب الإيراني العراقي هو أهم أسباب الفوضى الأمنية والسياسية والاقتصادية في المنطقة، وأخطرُها.
هل يمكن أن تساعد سياسات الضيوف العرب القديمة والجديدة تجاه العراق على تثبيت حالة الاستقرار في العراق وفي المنطقة عقب الانسحاب الأميركي المنتظر من الأراضي العراقية مثلما رددت فضائياتهم وصحفهم
ويقول كثيرٌ من الأشقاء العرب المنظرين الذين ظهروا كثيرا على الفضائيات العراقية والعربية والعالمية معلقين على نتائج قمة بغداد إنها “كانت محاولة من الدول العربية لإحداث توازن استراتيجي في العراق والمنطقة”.
ولكن الأمر الوحيد المتوفر أمام هذه الدول لاستعادة العراق هو فقط تعاونُها الاقتصادي مع الحكومة العراقية في مشروعات استثمارية، بشكل خاص، ومثل هذا التعاون الاقتصادي لن يتحقق بوجود الفصائل الولائية الإيرانية المسلحة التي تتحكم بالصغيرة قبل الكبيرة من مشاريع الاستثمار (الأجنبي) في العراق، خصوصا إذا كانت سعوديةً أو إماراتية، وإلا إذا كانت سطحية لا تتحرّش بالاحتلال الإيراني وميليشياته المتسلطة.
ولا يلام عراقيون غرّدوا على مواقع التواصل بأن الذين وافقوا على حضور المؤتمر، وهم يعرفون مسبقا أن الذي يحتل العراق ويباهي باحتلاله سيكون على رأس المدعوين لحضوره، موافقون ضمنا على ترك العراق لإيران، وأنهم آتون فقط للتحاور معه من وراء ظهر الحكومة العراقية، ولو بالإشارة.
أما غياب وزير خارجية أميركا عن المؤتمر أو من ينوب عنه فليس له سوى معنى واحد، هو أن الإرادة الدولية، تحت القيادة الأميركية، لا تريد الآن، وحتى إشعار آخر، للإرادة الإقليمية، وخاصة العربية، أن تتصرّف بملف الوجود الإيراني في العراق، وذلك لأسباب لا يدركها إلا ذو عقل سليم.