عراق السوبر ماركت

قد يكون عنوان هذا المقال غريبا، وقد يبدو تهكميا وساخرا، لكن الحقيقة أنه وصف جاد لا ينطبق على وطن، منذ زمن طويل، أكثر مما ينطبق على عراق الحشد الشعبي ومزادات المنطقة الخضراء.
ففيه كل البضائع، وكل المعدات، من كل الأواني والأشكال والأوزان، وبجميع الأسعار، من مئة فلس إلى مئة مليار. كأي سوبر ماركت آخر عرفته تجارة الزمن الرديء.
ولا تبين هذه الصورة إلا عندما يتحدث أصحاب السياسة عن الديمقراطية، وإلا حين يُعدون عُددهم، ويُجمّعون أعدادهم لخوض معارك الانتخابات التي نادرا ما يقل منسوب التزوير والتلفيق والبيع والشراء فيها عن التسعين في المئة، في أحسن الأحوال.
ففي موعد كل انتخابات عراقية، ورغم أنها تشكل مفصلا تاريخيا يقرر شكل الوطن القادم ولونه ورائحته، يزداد ويشتد كثيرا جدا تقافُزُ أصحاب القوائم والتيارات والائتلافات خلف الممولين المحليين والخارجيين، من أجل ضمان أقصى ما يستطيع أحدُهم انتزاعه من أصوات تمكنه من امتلاك السلطة والسلاح لكي يجرّ العراقيين إلى ما يريده الممولون، أو على الأقل يعطل جزءا كبيرا مما يزعجهم، حتى ولو بتصريحات وبيانات هوائية وكلام جرائد.
◄ لا نظام الولي الفقيه يقبل ويتحمل ثمن خروجه من العراق مهما كلفه البقاء من تضحيات ومعوقات وتحديات ولا أميركا تقبل أن تتخلى عن العراق وكنوزه النفطية والجغرافية والسياسية والعسكرية
وتبدأ الدورة التي لا تنتهي ولا تتوقف. المال يجلب السلطة، والسلطة تجلب المال، وبالمال تُشترى السلطة مرة أخرى، والسلطة تأتي بالمال، مرة أخرى أيضا، ويبقى الطاس نفس الطاس، حتى لو الحمام لم يعد هو نفس الحمام.
ولأن غدَ أيِ وطن لا يولد إلا من حاضره فإن في إمكان أي مراقب منصف ومحايد أن يتلمس معالم الوطن العراقي الجديد الذي ستلده عواصف الانتخابات القادمة التي يقال إنها ستُجرى في زمن قادم قريب.
فأميركا موجودة في الوطن، ومعها، حبا أو نفاقا أو احتياجا، حلقاتٌ واسعة من العرب السنة والشيعة، ومن كرد الأحزاب القومية والإسلاموية، ومن التركمان، والمسيحيين، ونُتفٌ من قوميات وأديان أخرى، وحتى أنفار من حبايب ولاية الفقيه الإيراني، ولكن من تحت لتحت، خوفا من الفضيحة، وتخفيا عن العيون.
وإيران موجودة في الوطن أيضا، وبسحر سفيرها في بغداد وقوة سلاح أعوانها، ممسكة بأهم شرايين الوطن وأوردته، أجمعين.
والمشكل أنْ لا نظام الولي الفقيه يقبل ويتحمل ثمن خروجه من العراق، مهما كلفه البقاء من تضحيات ومعوقات وتحديات، ولا أميركا تقبل بأن تتخلى عن العراق وكنوزه النفطية والجغرافية والسياسية والعسكرية بتاتا، وإلى آخر نفس.
وحين يقول الرئيس الأميركي دونالد ترامب صراحة “سنخرج من سوريا قريبا جدا، وندع الآخرين يهتمون بها، وسنعود إلى بلادنا حيث ننتمي،” فإن هذا يعني أنه يخطط للتفرغ لإيران، وربما قبل ذلك للعراق.
ولعل أهم ما ينبغي تسجيله هنا هو أن إيران مكروهة في العراق لدى نسبة كبيرة جدا من الشيعة العرب، أكثر من باقي الطوائف والقوميات والتيارات السياسية والفكرية والاجتماعية العراقية الأخرى، ولكنها، رغم هذا الكره، باقية إلى أن يشاء الله.
وأميركا هي الأخرى ليست محبوبة من عموم الجماهير العراقية، ولكنها باقية هي الأخرى، وتحاول أن تغري الذين لا يحبونها بتخليصهم من كابوس إسماعيل قاآني، وسفارة الحرس الثوري في العراق، وإطلاق سراحهم من جنون الفصائل المسلحة التي لم تعد تحتمل.
◄ أميركا موجودة في الوطن، ومعها، حبا أو نفاقا أو احتياجا، حلقاتٌ واسعة من العرب السنة والشيعة، ومن كرد الأحزاب القومية والإسلاموية، ومن التركمان، والمسيحيين، ونُتفٌ من قوميات وأديان أخرى
ومن الممكن تحديد احتمالاتٍ ثلاثة ستسفر عنها الانتخابات القادمة، إن أجريت، كلٌ منها سيجعل العراق القادم عراقا مختلفا عما كان قبل عشرين سنة، ربما قبل قرن من الزمان.
الأول أن يربحها الحشد الشعبي وإسماعيل قاآني، بالقوة، أو بالحيلة، أو بالبيع والشراء، أو بها كلها، فتصبح الدولة العراقية في خبر كانَ، من الآن ولعشراتٍ قادمة من السنين، وقد يضمُها أعوان الولي الفقيه العراقيون إلى أملاك الإمبراطورية الفارسية العائدة بعد غياب طويل، وقد يجعلون بغداد عاصمتها الجديدة، لا سمح الله.
وهذا يعني عودة معارك تكسير العظام بين الحشد الشعبي ومعارضيه، وبأقسى من كل ما مر من اقتتالات سابقة.
والثاني أن ينتصر الفريقان العراقيان الأميركيان، الظاهرُ والمخفي، وينتزعان أغلبية المقاعد في البرلمان والحكومة، ويلتقطان واحدا من سقط المتاع فيزكيه الأميركيون، ويلمعونه، ويلبسونه ثوب رجل وطني نزيه وشريف، ليضطر سلاح الفصائل إلى إشعال نيران حروب حزبية وعشائرية ومناطقية مفبركة، فينهض المعسكر الآخر للدفاع عن نفسه، بما يتوفر من وسائل تكسير عظام من آخر موديل، ويدفع العراقيون، مرة أخرى، ثمنها الباهظ من أعمارهم بأنهار جديدة من دم ودموع.
والثالث أن ينتصر عراقُ أهون الشرين، المتمثلُ ببقاء الحال على حاله، ومواصلة المزاوجة الصعبة بين الصيف الأميركي والشتاء الإيراني.
ورغم أن هذا الحال أقلُ دما ودموعا، ولكنه يعني استمرار حالة اللاأمن، واللاسلم، واللاإعمار، واللامحاربة فساد، واللامحاكمة تزوير الشهادات.
وهذا أكثرها احتمالا، باعتباره حل الترضية الإجباري بين أميركا وإيران، في انتظار نهاية اللعبة النارية بين الشيطان الأكبر، دونالد ترامب، وخليفة المسلمين، المرشد الأعلى علي خامنئي، وعلى الله فليتوكل المؤمنون.
والسؤال المهم الآن هو أيّا من هذه العراقات الثلاثة يريد أهلنا العراقيون؟