"رأفت الهجان" الروسي

الجواسيس أبطال مجهولون، لا أحد يعرف أسرارهم، ولا أحد يطلع على حكاياتهم الشخصية لكن الأمم المأزومة تبحث عن الأبطال.
الأربعاء 2018/09/19
الملايين يبحثون عن ثأر في شخصية الهجان

تعرض “دار بوشكين” وهي المركز الثقافي الروسي في لندن، مسلسلا قديما عن جاسوس روسي استطاع اختراق منظومة الاستخبارات والسياسة في ألمانيا النازية في المراحل النهائية من الحرب العالمية الثانية. إنتاج مسلسل “سبعة عشر لحظة من الربيع” يعود إلى عام 1973. يقول الجيل الذي عاصر بث المسلسل للمرة الأولى في الاتحاد السوفياتي أن وقت العرض كان أشبه بساعات حظر التجول. لا أحد في الشارع. المكتب السياسي للحزب الشيوعي الحاكم يؤجل مواعيد اجتماعاته لأن الأمين العام ليونيد بريجينيف كان يتابع المسلسل. جيل روسي كامل تربى على بطولة الجاسوس ستيرليتز، والأهم كيف يعيش ويفكر. أعاد المسلسل الاعتبار لجهاز الاستخبارات “كي جي بي” في وقت كانت سمعته في الحضيض.

هل يذكركم المسلسل الروسي بشيء؟ نعم. نفس المشهد تكرر تماما مع مسلسل “رأفت الهجان” المصري. شوارع المدن العربية كانت تخلو من المارة وقت عرض المسلسل. في الثمانينات كانت مواعيد عرض المسلسلات في التلفزيونات المحلية مقدسة. لا محطات فضائية تعيد البث ولا إنترنت تسمح لك بتنزيل ما فاتك. يقال إن المسلسل الروسي كان يستقطب 50-80 مليون مشاهد. لا أشك أن “رأفت الهجان” كان يجتذب جمهورا أكثر. لا شك بأن الملايين كانت تبحث عن ثأر في شخصية الهجان.

الجواسيس أبطال مجهولون. لا أحد يعرف أسرارهم، ولا أحد يطلع على حكاياتهم الشخصية. لكن الأمم المأزومة تبحث عن الأبطال. هم ملاذ لها في مواجهة الواقع. لا يمكن الاستهانة بتأثير هذه الشخصيات خصوصا عندما تخرج قصصهم إلى العلن وتصبح دراميا سينمائية أو تلفزيونية. يكاد باحثون غربيون أن يقطعوا بأن شخصية الجاسوس الروسي شكلت شخصية جاسوس روسي أهم وصل إلى أعلى المراتب: فلاديمير بوتين.

“رأفت الهجان” الروسي شاهد تقزم دور الاتحاد السوفياتي وانهياره وتجرؤ الغرب عليه. رفض الفكرة وشن هجومه المضاد. لم يكتف بدور الجاسوس المعزول في برلين، بل عاد إلى موسكو ليعيد مجد الروس واحترامهم بين الأمم. شيء عجز عنه الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين. كان سكيرا وفضا وثرثارا. صحيح أن يلتسين كان يشبه الفرد الروسي العادي، لكن بوتين كان يريد شكلا آخر للزعيم الذي يجلس في الكرملين. رفض الاكتفاء بدور “رأفت الهجان” أو جيمس بوند، ودخل لعبة السياسة ووصل إلى موقع القرار. روسيا بوتين شيء مختلف، تكاد تتعافى من نكبة انهيار الاتحاد السوفياتي. جاسوس سابق أو ثعلب سياسي أو مخطط استراتيجي؛ ضع أية صفة على بوتين. لكنه حاذق يمارس لعبة الأمم بلا رأفة أو تردد.

الناس تبحث عن أبطال. من حكايات أبوزيد الهلالي إلى شاشة التلفزيون التي تقدم “رأفت الهجان”. عندما مل الأميركيون من رؤسائهم في الستينات والسبعينات، جاءوا عمليا ببطل سينمائي هو رونالد ريغان “ليمثل” دور الرئيس. وكان بطلا بالفعل إذ دمر الاتحاد السوفياتي عندما ادخله في سباق تسلح نصفه حقيقي ونصفه الآخر مفبرك عن “حرب نجوم” كأنها قادمة من هوليوود. انقطعت أنفاس الاتحاد السوفياتي ومات بالسكتة القلبية.

في فوضى العالم السائدة، لا ضير من البحث عن أبطال بين المسلسلات القديمة.

24