ذكاء اصطناعي بمعدة خاوية

مصر هي المثال الأكثر إثارة للتخوف من أن ندخل عالم التقنيات دون أن ينعكس ذلك على مناحي التطور الأخرى، بدءا بالوعي ومرورا بالتعليم ووُصولا إلى تطوير وسائل إنتاج الضروريات قبل الكماليات.
الاثنين 2023/03/27
مصر لم تتعلم كيفية إبطال مفعول الانفجار السكاني وانساقت إليه بلا وعي

قبل يومين خاطبني الذكاء الاصطناعي لشركة مايكروسوفت من خلال نافذة على برنامج سكايب. البرنامج يتحدث باسم “بينغ” ويقول: إنْ شئت أضفني إلى أي من نوافذ الحوارات التي لديك وسأشارك فيها وأتعلم أكثر.

المحادثة كانت بالإنجليزية، واقترح مثلا أن أطلب منه معرفة اسم فيلم أذكر تفاصيله وليس اسمه. فقررت امتحانه بسؤال بالعربية.

سألته: “ما اسم الفيلم المصري الذي يتناول قضية الاضطهاد السياسي في زمن عبدالناصر؟”.

أجاب: “الفيلم المصري الذي يتناول قضية الاضطهاد السياسي في زمن عبدالناصر هو فيلم ‘الكرنك’ وهو فيلم سياسي مصري من إنتاج عام 1975 عن رواية ‘الكرنك’ للأديب المصري نجيب محفوظ، ومن إخراج علي بدرخان، وبطولة سعاد حسني، وكمال الشناوي، وصلاح ذو الفقار، وفريد شوقي، ونور الشريف ونخبة من نجوم السينما المصرية. هل تحتاج إلى مزيد من المعلومات؟”.

◙ أن يدخل الذكاء الاصطناعي عالمنا بالطريقة نفسها التي دخلت بها تقنيات معلوماتية وصناعية أخرى فمعنى ذلك أننا مقبلون على مواجهة مشاكل كبرى. هذه مرحلة تجميلية جديدة تخفي حقيقة أن عالمنا لا يزال متعثرا بالضروريات

كان هو الفيلم نفسه الذي بذاكرتي وكنت أعرف عنوانه. نجح الذكاء الاصطناعي بينغ في الاختبار. ربما هو نجاح نسبيّ، لكن البداية مبشرة. فقريبا مثله وأمثال “شات جي بي تي” أو البرنامج الذي يتحكم باختيارات أي مقطع فيديو يناسبك أكثر على تيك توك، وهو منطقة الصراع بين الصين والولايات المتحدة وليس قواعد البيانات للمستخدمين كما يتم الترويج له، ستصبح هذه البرامج هي العين التي تنتقي بين نتائج محركات البحث: غوغل نتائج غوغل، أو غوغل الغوغلات إذا جاز التعبير. هذا نوع من المعارف يفرض على منطقتنا نمطا آخر من التفكير.

أذكر التوظيف المرتبك لتقنيات البث الفضائي والإنترنت. دخلنا العصرين في وقت واحد، فساد العبث بهما وتحولت الفضائيات إلى منابر سياسية ودينية، واختلطت الأمور على الإنترنت إلى درجة أنك صرت لا تميز بين الحقيقة والدجل الديني أو السياسي. وزاد حضور الشبكات الاجتماعية من المشكلة بخلقه عالما موازيا تماما لعالمنا. المؤكد أن انعكاسات هذه الثورات التقنية كانت مختلطة، فيها الكثير من الإيجابيات وأيضا الكثير من السلبيات. اليوم نحن على أبواب نقلة نوعية يقودها الذكاء الاصطناعي. وعلى عكس الثورتين السابقتين، نبدو اليوم أكثر استعدادا لدخول ثورة الذكاء الاصطناعي، بالكثير من الاهتمام والكثير من الاستثمارات والعلاقات مع الشركات الرائدة في هذا المجال. لا شك أن من المبكر معرفة ما ستؤول إليه الأمور.

الرد الذي جاءني من بينغ يمكن وصفه بالمجاني. تقنية مذهلة تمر على نتائج البحث بذكاء وتقوم بالدور البشري في اختيار الرد الذي يناسب السؤال. أخبرني مهندسون في بريطانيا بأن البعض صار يستشير شات جي بي تي حتى في الأخطاء البرمجية أو باقتراح منطق بحثي معين. المساهمة التي يمكن أن يقدمها برنامج الذكاء الاصطناعي هنا مبنية على أساس استكمال مشاريع بحثية أو صناعية. هو أداة مثلا تساعد على برمجة حركة الروبوت. لكن صناعة الروبوت هي مهمة تقنية متطورة ومعرفة تحصل بالتراكم.

أن يدخل الذكاء الاصطناعي عالمنا بالطريقة نفسها التي دخلت بها تقنيات معلوماتية وصناعية أخرى، فمعنى ذلك أننا مقبلون على مواجهة مشاكل كبرى. هذه مرحلة تجميلية جديدة تخفي حقيقة أن عالمنا لا يزال متعثرا بالضروريات؛ مثلما كان الوعظ الديني ركنا أساسيا في الفضائيات أو في صفحات الإنترنت والشبكات الاجتماعية، واكتشفنا مع مرور الوقت أنه مجرد كلام في نهاية الأمر ولا علاقة له بتحريك واقع المعرفة والإنتاج والاقتصاد في عالمنا. لا نجد ما يمنع من تسخير الذكاء الاصطناعي في أشياء شبيهة بمعنى التقدم، في حين أن الحقيقة هي البقاء بمعزل عن التقدم.

ربما من المصادفة أن تأتي حرب أوكرانيا في التوقيت نفسه الذي وصلت فيه تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى مستوى النضج بما يكفي لاستخدامها بطرح سؤال مثل الذي طرحته على بينغ وتلقي الرد الدقيق. لكن هذا التوقيت إنما ينبهنا إلى حقيقة الضعف الكبير في مناحي الحياة الأخرى وكم الاعتماد على الآخر في الصناعة والغذاء والنقل والتمويل والتسليح وحماية الأمن القومي بمختلف مفرداته.

◙ انعكاسات هذه الثورات التقنية كانت مختلطة، فيها الكثير من الإيجابيات وأيضا الكثير من السلبيات. اليوم نحن على أبواب نقلة نوعية يقودها الذكاء الاصطناعي

لنأخذ مثلا الدولة العربية الأكبر: مصر. لا نعرف كيف ستدخل تقنية الذكاء الاصطناعي إلى مصر، ولكننا نعرف أن دخول مصر عصر الفضائيات والإنترنت والشبكات الاجتماعية غير نفسيات الناس وسهل بعض المراسلات واختصر وظائف، لكن لا المجتمع ولا الدولة استفادا من قدرة التواصل الهائلة هذه على التوعية مثلا بخطر الانفجار السكاني. خلال عصر الفضائيات والإنترنت (من عام 1990 إلى يومنا هذا)، زاد عدد السكان في مصر من 58 مليونا إلى ما يقرب من 110 ملايين نسمة. الأرقام تروي الحكاية، وأرقام مثلها تقول إن الأساسيات في مصر لا تزال تراوح مكانها وخصوصا ما يتعلق بالإنتاج الزراعي. لا يوجد أي منطق يفسر زيادة السكان في بلد صحراوي جغرافيا وبلا موارد طبيعية استثنائية مثل النفط. المنطق الوحيد هو أن الأمور تسير بعيدا عن استيعاب الناس لحقيقة الورطة التي يعيشونها في ابتلاع الاستيراد بكل أنواعه، وخصوصا الضروريات من حبوب وسكر وزيت، للكثير من الأموال أيا كان مصدرها، من تحويلات العاملين في الخارج أو المعونات من الغرب أو الدول العربية أو القروض. النمو السكاني كان برعاية هذه الأرقام، ورعاية أسعار منخفضة لحبوب وأرز مستوردين بشكل أساسي من أوكرانيا وروسيا وأستراليا وكندا والولايات المتحدة. تغيرت المعطيات العالمية بسبب الحرب الأوكرانية، فهدد الغلاء (كي لا نقول الجوع) كل شيء. القمح القادم من أستراليا اليوم ليس أغلى فقط، بل نقله وكلفة التأمين عليه أكبر بحكم المخاطر وزيادة أسعار الطاقة. عندما نتحدث عن معدة خاوية، لا معنى يبقى لكل الهواتف النقالة المتطورة في أيدي الناس أو المنابر الوعظية على كل القنوات المصرية وغير المصرية.

مصر هي المثال الأكثر إثارة للتخوف من أن ندخل عالم التقنيات دون أن ينعكس ذلك على مناحي التطور الأخرى، بدءا بالوعي ومرورا بالتعليم ووُصولا إلى تطوير وسائل إنتاج الضروريات قبل الكماليات. لم يكن منتظرا من مصر أن تدخل عصر غزو الفضاء بسبب الفضائيات والإنترنت، لكنها لم تتعلم كيفية إبطال مفعول الانفجار السكاني وانساقت إليه بلا وعي تقريبا. الوهم الذي يمكن أن تقدمه تقنية متطورة مثل الذكاء الاصطناعي يمكن أن يزيد من عمق الأزمة في البلاد. وما يقال عن مصر، يقال عن منطقتنا بشكل عام التي تقف مستلبة المصير أمام التغيرات المناخية وتراجع الإنتاج في كل شيء سواء أكان زراعيا أم صناعيا، وتذبذب أسعار الطاقة، سلبا على الفقراء ممن لم يجدوا آبار نفط على جغرافياتهم، وإيجابا على المنتجين.

سيرد الذكاء الاصطناعي على أسئلة افتراضية كثيرة وسنجد فيه لعبة جديدة من ألعاب اللهو التي تملأ الفراغ ولا تملأ البطن.

9