"ديكامرون" عربي على خطى الإيطالي جيوفاني بوكاشيو

قصص لكتاب مخضرمين وناشئين ترتكز على ثيمة الهروب من الوباء.
السبت 2020/10/24
الحكايات وسيلة نجاة (لوحة للفنان سمير الصفدي)

نحن نحكي لننجو، ولقد فعلتها شهرزاد مع شهريار في “ألف ليلة وليلة” لتنجو من الموت، وفعلها الإيطالي جيوفاني بوكاشيو في “ديكاميرون” لينجو من الطاعون، واليوم نجد مجموعة من الحكائين العرب والأجانب يحكون قصصهم في “ديكاميرون 2020” لعلهم ينجون من العزلة والموت اللذين خلفتهما جائحة كورونا ولا تزال تأثيراتها تقض مضاجع الجميع.

ليست هذه المرة الأولى التي يتعرض فيها هذا الكوكب، لوباء يهدده ويقضي على الضعفاء جسديا فيه، فالأوبئة كانت قد مرت على الشعوب، وقضت عليهم، وخلّفت آثارا سلبية كبيرة، ليس فقط على صعيد الجسد والنفس، وإنما أيضا على صعيد القناعات وارتباطها بالخالق.

اجتاح الإنسانَ غرورٌ عامرٌ بسبب التطور التكنولوجي الذي وصل إليه، واعتقد بنتيجته التي قاربت الإعجاز وخاصة في مجال الطب، أنه تخلص من عصر الأوبئة والأمراض المزمنة التي لا رجاء منها ولا دواء لها، إلى أن صدمته في العام 2020 جائحة كوفيد – 19، أو ما سمي بكورونا، فَشلّت حركته وخاف وضعف، فحالات الموت تتكرر أمامه والعزلة الإجبارية باتت سجنه.

الهروب من الواقع إلى الخيال الجامح
الهروب من الواقع إلى الخيال الجامح

في القرن الرابع عشر عاشت أوروبا ظروفا مماثلة لما يعيشه العالم اليوم، وبشكل أكثر شبها بما تعيشه بعض البلدان العربية، التي لم تكتف ببلاء الوباء بل أضافت إليه أزمة اقتصادية قاتله خلّفتها الحروب والثورات.

 كانت أوروبا تعيش حالة احتضار تام، واعتبرت تلك الفترة، بشهادة الكثيرين نقطة فاصلة في التاريخ، فقد شهدت حرب المئة عام، إلى جانب العديد من الأوبئة القاتلة، التي كان من أهمها وربما أكثرها شهرة بالنسبة إلينا الطاعون، الذي أودى بحياة ربع سكان القارة الأوروبية.

في تلك المرحلة تحديدا حاول بعض الكتاب الهروب من الواقع إلى الخيال الجامح، وربما تكون رواية الإيطالي جيوفاني بوكاشيو (1313-1975)، “الديكاميرون” أو (الأمير غاليوتو)، واحدة من أهم الروايات في العالم التي حاول الكاتب من خلالها الهروب والنجاة بنفسه من الموت والعزلة.

وتعني كلمة الديكاميرون التي أطلقت على رواية جيوفاني والمؤلفة من قمشين، ديكا ويعني عشرة، هميرا وتعني أيام، وتدور حول عشرة من الشباب والشابات الهاربين من الطاعون، والذين اختاروا أن تكون قصصهم التي سيروونها لبعضهم البعض خلال الأيام العشرة، طوق نجاتهم.

اشتهرت رواية الديكاميرون واعتبرت منذ ذلك الوقت نموذجا للرواية الحديثة، كما كانت السبب في اعتبار إيطاليا البلد الذي نشر وعرف فن سرد القصص.

ورواية “ديكاميرون” كتبت باللغة الإيطالية العامية، وهي لغة صعبة لأنها أقرب إلى اللاتينية، وسبق أن تمت ترجمة ونشر البعض من قصصها إلى العربية على عدة مراحل، لكن الرواية لم تترجم كاملة إلى العربية، إلا في العام 2006، حينما قامت دار المدى للثقافة والنشر كان بإصدار الطبعة الأولى منها والتي حملت عنوان “ديكاميرون، بوكاشيو والرواة العشرة”، وضمت في صفحاتها الـ700، مئة قصة وتدور معظمها في فلك الرومانسية والعاطفة والشرف والفروسية، إلى جانب بعض القصص الجريئة جدا والتي تعرضت للمواضيع الأيروتيكية.

 يقول جيوفاني في مقدمة الرواية “أنوي مد يد العون والجميل لأولئك النساء اللواتي يحببن، بأن أورد مئة قصة، أو أسطورة، أو أمثولة، أو حكاية، رواها في عشرة أيام، في اجتماع شريف، سبع سيدات وثلاثة شبان في أيام الوباء الفتاك الرهيبة، وبعض الأغنيات التي غنتها السيدات المذكورات لمتعتهن”.

ويبدو أن تلك المرحلة من التاريخ كانت شديدة الصعوبة على الأوروبيين، لدرجة أن الكنيسة والتي كان لها اليد العليا في شؤون اللاهوت والسياسة الدنيوية، وجدت نفسها في خضم أزمة طاحنة، ولاسيما حول إمكانية التحقق من معرفة الرب عن طريق العقل، وظهور حركات صوفية تحاول التوفيق بين الأنا الفردية والجوهر الإلهي، وقد قلصت هذه الحركات والتوجهات من أهمية الكنيسة ومكانتها كوسيط بين الرب والإنسان، وتراجعت محاكم التفتيش وتراخت العادات والتقاليد الأخلاقية. كما يذكر صالح علماني مترجم الرواية.

ديكاميرون 2020

بعد كل تلك السنوات، عادت الكاتبة السورية روعة سنبل لاستحضار روح تجربة الإيطالي جيوفاني في ديكاميرون، ربما لأن أوطاننا قد أصابها الوباء، فزادها غما وحزنا، وربما كان استحضار التجربة فقط، بدافع الهروب من الواقع وإنكاره نهائيا.

وكان مشروع الديكاميرون قد بدأ كفكرة لدى سنبل، حين نشرت على صفحتها في فيسبوك تعريفا بتلك الرواية التي كتبها جيوفاني والتي ارتبطت بزمن الوباء في أوروبا، وكيف أن عشرة أشخاص هربوا ولكي يستغلوا هذا الهروب، كتبوا مئة قصة، وطرحت إعادة الفكرة مرة أخرى في زمن الكورونا.

صحيح أن الرواية، قد تبدو كما تراها سنبل تشاركية، لكن القارئ ربما سيتلمس خدعة كان قد افتعلها جيوفاني، وأصبحت لاحقا حقيقة، فتلك الشخصيات العشر ما هي إلا وهم، وتلك القصص ما هي إلا وحي من خيال، إنها حكايات في سردها أقرب لشهرزاد جديدة، تحكي لتنجو من بطش شهريار الطاعون، ولتنجو بروحها من الموت.

مهما كانت الحقيقة فإن جيوفاني استطاع وعبر كل تلك السنوات والعقود أن يقنع القارئ بوجود هؤلاء الشباب والشابات، الذين أطلق عليهم لقب الملوك والذين حكوا له ولبعضهم ما يقارب 100 قصة.

تقول سنبل “قوبلت الفكرة بإقبال شديد من أصدقاء الصفحة والذين في معظمهم كتّاب على اعتباري قاصّة، فقررت حينها إنشاء صفحة مستقلة للموضوع، ثم عرضت الفكرة على صديقتي الكاتبة فدوى العبود، وأعجبت بها، كما أعجب بها العديد من الأصدقاء الذين ساهموا وتحمسوا، وبدأنا تدريجيا باستضافة الكتّاب على أساس تقسيم العمل بحسب المحاور (الثيمات)، واقترحت أنا وفدوى بداية المحاور الأولى، ثم بدأنا لاحقا نستضيف أصدقاء مهتمين بالقصة القصيرة، حتى وإن لم يكونوا قاصين، فنقوم بدورنا بالتعريف بهم وكانوا بدورهم يختارون المحور”.

القصص تجمع مستويات كتابية مختلفة بين كتاب معروفين وكتاب يشقون طريقهم للإبداع ويرغبون في التعرف إلى أصواتهم

وتتابع ضاحكة “كنت أطلق عليهم لقب الملوك أسوة برواية ديكاميرون الأصلية، لكن البعض اعترض على ذلك، فاكتفينا بصفة الضيف، كما بدأنا بالتواصل مع الكتاب الذين لديهم قصص ترتبط بمحاور مشابهة لمحاورنا، لنستأذنهم بالنشر على صفحة الديكاميرون”.

وتقر سنبل “أن هدف المشروع لم يكن توثيق اللحظة وإنما الهروب منها وإدارة الظهر، كانت التجربة خيط نجاة من العزلة والسبيل إلى السلوى. كبر المشروع وبدأت الصفحة تستقبل عشرات المشاركات والاقتراحات، ويتواصل معها القراء إلى أن أصبحت عبئا حقيقيا على مؤسستها”.

تقول سنبل “شعرت أن المشروع بدأ يأخذ الكثير من وقتي، إلى درجة أنه بات يحرمني من حريتي في الكتابة والعمل، وخاصة أنني عادة ما أتفرغ للكتابة الشخصية في شهري يوليو وأغسطس من كل عام، فقررت تجميد المشروع قليلا”.

لكن المشروع الذي كان قد جمع حوالي 50 قصة من كتاب مخضرمين وناشئين، من خلال محاور خمسة، دفع أصحابه للتفكير بتحويله إلى كتاب منفذ بطريقة PDF وبشكل مستقل تماما، إلا أن الصدفة شاءت أن يتواصل جعفر العقيلي من دار الآن ناشرون وموزعون في عمان، لتحويله إلى كتاب، على أن يبقى متاحا بشكل مجاني في نسخته الإلكترونية.

التحول إلى كتاب

Thumbnail

تضمن الكتاب خمسة محاور أو ثيمات حول “المرايا، القطارات، الحبال، الفقاعة، الأحلام” وضمت كل ثيمة عددا من القصص، بينما ختم كل محور منها بقراءة نصية قدمتها الكاتبة السورية والشريكة في المشروع فدوى العبود.

تقول سنبل “تعتبر الثيمات الخمس التي اخترناها للكتاب شائعة عموما في كتابة القصة القصيرة، ولذلك كان أمامنا المجال واسعا للاختيار، سواء من مساهمات كتاب القصة القصيرة، أو من اقتراحات أصدقاء الصفحة أو من رصيد قراءتي و قراءات شريكتي في المشروع فدوى العبود، وكنا ننتقي النصوص ونحرص على التنوع فيها، فجاءت في المجموعة قصص لبعض الكتاب الذين يعدّون آباء القصة القصيرة، سواء عربيا أو عالميا، جنبا إلى جنب مع قصص لكتاب ما زالوا في خطواتهم الأولى”.

كما أضفنا بعض القصص المترجمة وبعض القصص التي تعد من كلاسيكيات الأدب، إلى جانب قصص حديثة جدا، تقصّدنا هذا التنوع كي نرى طريقة تناول المحاور من زوايا عدة، تختلف باختلاف أجيال كتّابها وأعمارهم وجنسياتهم، وبالتالي يتاح لنا الاطلاع على أساليب متعددة للسرد وعلى طرائق متنوعة في التعبير.

ورغم أن الظرف الراهن مرتبط بكورونا بشكل مباشر والكثير من المشاريع قامت مؤخرا حول فكرة الكتابة عن العزلة والحجر والانتظار والموت، فإن الخيار في ديكاميرون 2020، كان الابتعاد كليا عن الوباء، والسبب في ذلك كما تقول سنبل، لأننا أردنا الحفاظ على روح الديكاميرون، فالحكايات المئة التي تبادلها الحكاؤون الهاربون، لم تكن عن الوباء، كما أن خيارنا كان أن ندير ظهرنا تماما للوباء وأن نحكي حكايات أخرى كنوع من المخاتلة والخداع، وكأننا ببساطة نخدع خوفنا، ومع أن معظم حكاياتنا لم تكن مبهجة أو مسلية، إلا أننا على الأقل حاولنا أن نتناسى قلقنا من الوباء وان ننشغل بموضوعات أخرى، وجاهدنا كثيرا لأن تكون موضوعات تحفر عميقا في الذات الإنسانية.

وتتابع “كما أنني أؤمن شخصيا بأن المنجز الفني الأفضل هو الذي يعقب مرحلة الانفعال، وأعتقد أن الوقت ما زال مبكرا للكتابة عن كورونا، فما زلنا نحتاج إلى أن نعبر هذا الوباء بسلام وأن نلتقط أنفاسنا ثم نكتب عنها، أقول هذا مع احترامي طبعا لكل التجارب الفنية على اختلاف أشكالها والتي أنتجت وأنجزت تحت وطأة الكورونا.

الديكاميرون تحوّل من فكرة في رواية إلى واقع يومي افتراضي لتبادل الحكايات ومن ثم إلى كتاب

أما القاصة السورية فدوى العبود، التي سبق وأن حصلت على جائزة منى الشافعي عن قصتها “كاميرا ملونه” والتي كانت الشريك الأساسي في المشروع فتقول “كان التهديد بالوباء عاليا. وراح الأطباء يتحدثون عن أرقام الموتى. كنا نشعر أن هناك مبالغة وحرصا شديدا على إشاعة الذعر بين الناس، في هذه الفترة اقترحت الكاتبة السورية روعة سنبل أن نستلهم تجربة جيوفاني بوكاشيو في روايته ‘الديكاميرون‘، باختصار أن نحكي لننجو، فتم طرح الفكرة عبر وسائل التواصل واستجاب لها الكتاب”.

وتضيف “كان الاقتراح بداية أن يختار احدنا محورا (ثيمة) معينة، ثم نقدم نصوصا حولها على أن يبلغ عددها 10 نصوص. ولم يكن ضروريا أن تكتب النصوص بمناسبة ما، وإنما يكفي أن ترتبط بالثيمة. وعلى مدى عدة أشهر وبينما كانت الصديقة روعة تتواصل مع المبدعين، الذين وصل عددهم إلى47 مبدعا كتبوا جميعهم نصوصا فائقة الجمال، وكانت النصوص تجمع مستويات كتابية مختلفة بين كتاب معروفين وكتاب يشقون طريقهم للإبداع ويرغبون في التعرف إلى صوتهم، كان نصيبي كتابة مراجعات نقدية عن النصوص، ونسخ نصوص أخرى ملائمة للثيمة مثل نصوص هيمنغواي وموراكامي”.

وتتابع “حاولت في قراءتي للنصوص أن أبحث عما هو مشترك بين النص والحياة، لكن النقلة الرائعة كانت في تحول النصوص من صفحة في العالم الافتراضي إلى كتاب مع الصديق المبدع جعفر العقيلي وكادره المتميز الأستاذ سامر حيدر المجالي وسجود فضل الله العناسوة، فتحول الديكاميرون من فكرة في رواية إلى واقع يومي افتراضي نتبادل فيه الحكايات، ومن ثم إلى كتاب وما يعنيه ذلك من نقل الفن إلى الواقع”.

13