"ديجافو".. مسرحية تكشف عن أوهام امتلاك الحقيقة المطلقة

يمكن للمسرح أن يقتحم ظواهر لا حصر لها، إنه نافذة جمالية على ما هو سياسي واجتماعي وعقائدي وفكري وحتى على ما يتعلق بالمشاعر والرؤى والهواجس وعلم النفس والعلوم الطبيعية، وغيرها. لا يتوقف أبو الفنون عند حاجز، وهذا ما تثبته مسرحية مصرية جديدة تناولت ظاهرة علمية معقدة نوعا ما، هي ظاهرة “ديجافو” وهي مصطلح علمي مقتبس عن الفرنسية تعني “شوهد من قبل”، وقد ابتكر هذا المصطلح العالم إميل بويرك في إشارة إلى ظاهرة مشاهدة الفرد لأشياء يعتقد أنه رآها من قبل.
تمثل النصوص المسرحية التي تميل إلى التجريد وتتجاوز أهميتها ما تقدمه من أحداث إلى ما يكمن خلفها من أفكار ومعان، تحديّا كبيرا في تناولها وتقديمها على خشبة المسرح. فالمخرج في تلك الحالة عليه الحفاظ على الأفكار الكامنة وراء النص والإبقاء على خيوط جذب الجمهور لمتابعة العرض دون الإصابة بملل.
“ديجافو” هو عنوان العرض المسرحي الذي شرع في عرضه بدار الأوبرا المصرية ويستمر حتى نهاية الشهر الجاري، وخاض منتجوه تحديا يتعلق بتحويل نص فلسفي بدرجة كبيرة إلى عرض مسرحي جذّاب.
فالنص المسرحي “إثبات العكس” للكاتب السويسري أوليفيه شاشياري الذي يقوم عليه العرض تجتمع فيه العديد من الأفكار التي تتجاوز في أهميتها ما يدور من أحداث ليصير التجريد هو ملمحه الأساسي.
جرت في النص عملية البحث عن شخص يدعى تيو من قبل “غرباء”، وتنطلق بداية من منزل بطل العمل المسرحي، الذي لا يضع له الكاتب اسما وإنما يُطلق عليه “الموضوع”، ويبدأ ذلك (الموضوع) في التعرف إلى الفرضيات التي تسعى إلى اكتشاف ما إن كان تيو مُذنبا أم لا، وبالتالي تُعرف جميع الأحداث من خلال سرد تلك الفرضيات واحدة تلو الأخرى.
تغيب الأسماء في النص فيما عدا اسم تيو، الذي تُروى عنه الأحداث لمحاولة التوصل إلى حقيقة ما يُشاع عن قيامه بجريمة اغتصاب “ابنة الصيدلي”، كذلك الزمن ثابت لا يتغير، ومع كل سرد لفرضية جديدة حول ما فعله يتّضح أمر من بين أحداث الواقعة المتهم بها، وتعكس أحد أوجه الحقيقة، لكنها في الآن ذاته تُثبت أن الجميع مُتورط في الجريمة بدرجة ما.
رؤية فنية متطورة
يُشرّع النص فضاءات رحبة للأسئلة، لكنه لا يمنح أيّ إجابات سوى تلك الفسيفساء التي يمكن رؤيتها حينما يبدأ القارئ في تجميع الفرضيات التي يقدمها النص ليصل إلى الوجه الأقرب لحقيقة الأحداث، وإن كان بذلك يضع النهاية مفتوحة، وباستثناء تلك الإجابة المُحتملة يُمكن لكل قارئ أن يفسر الأمر وفقا لرؤاه الخاصة، فالنص متعدد الأبعاد ومفتوح على دلالات عدة.
لجأ المخرج المسرحي أحمد فؤاد في معالجته لذلك النص الإشكالي إلى الحفاظ على تسلسل أحداثه ومضمونه بشكل كبير، وإن كان قد غلّف تلك الأحداث برؤية جديدة في إطار ظاهرة “الديجافو”، التي تشير إلى توهم الشخص بأنه قد شاهد الأحداث التي يمر بها من قبل أو عاين المشاعر ذاتها في فترة سابقة، ومن ثم قدّم صناع العمل رؤية جديدة دون التخلي عن أفكار النص.
يبدأ العرض ببطل المسرحية الذي يأتيه بغتة عدد من الغرباء وهم في العرض مُقنّعزن ليسألوه عن مكان صديقه الذي يبحثون عنه كي يخضع للعقاب إثر قيامه بجريمة الاغتصاب، وبعد مغادرة المُقنّعين تبدأ زيارات مختلفة للبطل وفي كل زيارة تنجلي له زاوية أخرى حول صديقه وما فعله.
يكتشف بطل المسرحية أن جميعهم مُتورطون في الأحداث بشكل ما، وأنه مثلهم أيضا مُتورط في كل شيء يدور من حوله، وإن حاول التملص من ذلك؛ فبمجرد معرفة الحقيقة يتغيّر كل شيء ويصير الفرد مسؤولا عما يحدث، وهو ما يكشف في الوقت نفسه أن كل إنسان له أخطاء وزلّات، وهو ما يجعل إطلاق الأحكام المُطلقة على الغير من صلف الإنسان وشططه.
اختار المخرج عنوان العرض “ديجافو” ليُركز على فكرة وهم امتلاك الحقيقة المطلقة، فديجافو كظاهرة عقليّة يتوهم فيها الشخص أنه قد رأى ما يحدث من قبل، ومن ثم فهو مُحاط بكثير من الأوهام يظن معها أنه على حق فيما هو أسير وضعٍ ما يفرض عليه ذلك اليقين.
ولجأ المُخرج أحمد فؤاد في معالجته للنص إلى إظهار مضمونه الذي يتمحور حول الفرضيات المتتابعة حول الموضوع على أنها جزء من وهم البطل أو حلمه الطويل الذي راوده أثناء انتظار صديقه، ما يتسق مع عنوان العرض، ويمحو بعضا من الغموض الكامن في النص، إذ تبدأ الأحداث وتتصاعد في العرض مرتكزة حول فكرة الأوهام التي تراود البطل ويختلط فيها الواقعي مع الخيالي.
أهمية الكوميديا
يمكن الحديث عن العديد من نقاط الارتكاز في المعالجة الإخراجية التي قدّمها العرض لنص يميل إلى التجريد، وجاء توظيف العنصر الكوميدي كأحد أهم تلك النقاط، وبينما يميل إيقاع النص المسرحي إلى الرتابة رغم جرعة النزعة البوليسية به، فقد لجأ المخرج إلى الكوميديا لإضفاء أجواء من المرح على سرد الأحداث، وعزّز تلك الأجواء بالاعتماد على اللغة العامية ليأتي الحوار أكثر سلاسة وتدفُقا.
لم ينجرف منتجو العرض، الذي شارك في إخراجه كل من أحمد رضا، ومها سامي، ومحمد عبدالمحسن، وراء الاستسهال في تقديم الكوميديا بشكل فج لا يناسب فكرة النص، وإنما غُزلت الكوميديا في تضاريس العرض، وفي بعض الجمل الحوارية ليكون الاعتماد الأكبر على كوميديا الموقف، وبصورة أكبر من خلال شخصية الجارة التي أضيفت لها بعض التفاصيل الكوميدية بشكل جذّاب.
ووظّف العرض بشكل جيد عناصر التشويق المُنبثقة من بعض التفاصيل التي تحمل بُعدا بوليسيا في النص، فكان الانتقال من فرضية إلى أخرى، كما في النص، أو من مشهد لآخر كما في العرض، من خلال الإظلام ليُعلن عن بداية فرضيّة جديدة تحمل وجها آخر لما هو أقرب إلى الحقيقة.
وكانت الإضاءة مُعبّرة عن الجو الدرامي المشحون بالتوتر والإثارة في معظم الأحيان عن طريق التغيير في ألوان الإضاءة وشدّتها.
وعُززت تلك الحالة الدرامية من خلال الموسيقى التي جاءت متنوعة لتعكس أجواء الكوميديا حينا والإثارة والتشويق حينا آخر.
مسؤولية الإنسان
في العرض الذي أنتجه مركز الهناجر للفنون، وقام ببطولته كل من تامر نبيل، وأحمد السلكاوي، ومحمـد يوسف، وبسمة ماهر، ورحمة أحمد، يأتي اسم البطل آدم، وصديقه الذي تسرد عنه الحكايات منذ بداية العرض وحتى نهايته اسمه آدم أيضا.
وجاء هذا الخيار في معالجة النص ليعزز شمولية الفكرة لكل إنسان في أي زمان ومكان، من ثم يحضر التأكيد في الحوار المسرحي على فكرة تورط الإنسان في أي حدث بمجرد معرفته له، حتى لو كان ذلك الحدث “الدلافين التي غرقت في النيجر أو ثقب الأوزون أو نشوب حرب”.
يفرض التورط في ما يحدث على كل إنسان أن يتخذ موقفا ما، وألا يقف مكتوف الأيدي، فرغم أن للحقيقة وجوها عدة، إلا أن كل فعل هو موقف حتى لو كان محض تجاهل فإنه سينتج عنه أثر ما، وهو ما بيّنه العرض.
وبعد أن وجد البطل نفسه مُشتتا بين مختلف الجوانب لرؤية الحدث ذاته، قرر أن يتجاهل استغاثة صديقه به لينقذه ممن يطاردونه، وهو ما نتج عنه مقتل الصديق، وبالتالي فإن السلبيّة إزاء ما يدور قد تكون لها نتيجة مُدمِّرة.