دور الثقافة التونسية من مؤسسات منتجة إلى مبان خاوية

لا جدال على ما قدمته دور الثقافة التونسية التي تنتشر في مختلف مدن تونس من شمالها إلى جنوبها، وساهمت لعقود في خلق حركية ثقافية تونسية، رغم المآخذ على تحكم سلطة الحزب الواحد فيها، وقد زاد وضعها سوءا بعد الثورة التونسية التي لم تحررها من التصورات البالية، علاوة على تردي أوضاعها مع الثورة التكنولوجية وتغير الواقع اليوم.
“إن البيوت تموت إذا غاب سكانها” قالها درويش وليسمح لي أن أسحب سطره الشعري ذاك للحديث عن دور الثقافة التونسية، وهي بما تحمله من اسمها من معنى البيت في ألفته وفي أبويته أيضا، دور آخذة في الموت بعد أن غاب أغلب سكانها، أبنية ومساحات لا حركية فيها، لأن الغياب الذي طالها هو غياب في الرؤى والتحيين والتجديد والترميم والتطوير، وما يترك على حاله يطويه الزمن.
دور الثقافة في تونس كان لها الفضل في خلق أجيال متلاحقة من المبدعين والمثقفين وفي نحت كيان ثقافي تونسي، كانت تجمع من خلال أنشطتها ونواديها وفعالياتها الناشئين والشباب وتقدم مجالا للمبدعين من الكتاب والشعراء والمسرحيين والفنانين التشكيليين والموسيقيين وغيرهم لتقديم أعمالهم، لكن رغم قسوة التعبير فإن هذه المؤسسات انطفأ بريقها اليوم وبالتالي انعكس ذلك على المشهد الثقافي ككل.
واقع صعب
الأسباب المادية أساسية فيما وصلت إليه دور الثقافة التونسية من ترد لكنها ليست الوحيدة ولا هي بالمبرر
المشهد ليس قاتما إلى درجة التشاؤم أو الإحباط، هناك محاولات هنا وهناك لتجديد دماء دور الثقافة والمؤسسات الشبيهة بمراكز ثقافية تابعة للدولة، ولكنها محاولات لا تذهب بعيدا في الإصلاح والتحيين والتغيير بقدر ما هي أشبه بمهدئات بسيطة لمرض عضال.
أتساءل دائما لماذا وصل الوضع بدور الثقافة إلى ما هو عليه؛ مبان خاوية بلا روح، وأماكن تسكنها الرطوبة والأفكار البالية؟
أذكر كيف بدأ الكثير من الشباب المبدعين هواة في الكتابة أو الفنون في فضاءات دور الثقافة، من نواديها خرجت الكثير من الأسماء واحترفت من بعد، ومن ملتقياتها الأدبية والفنية خُلقت حركية ثقافية هامة، لكن كان ذلك قبل تغير الواقع وانتشار الإنترنت وسهولة النشر والتغييرات التي بصمتها التكنولوجيا على إيقاع المجتمع والفرد. الشباب التونسي اليوم ليس هو نفسه قبل عشر سنوات، هناك تحولات كبيرة في الأجيال الجديدة تجهلها الدولة أو تغمض عينها عنها.
لا ننكر أن دور الثقافة كانت فضاءات للحزب الحاكم الذي كانت له مكاتب فيها، وكان يتحكم في كل شاردة وواردة، ولذا كانت الثورة التونسية مناسبة للخروج من هذا الواقع وتهشيم حدود الصوت الواحد والتزلف للحزب وأذرع السلطة التي تتحكم في الأفراد منذ الطفولة، وتحرك الساحة الثقافية ملغية من يخرج عن لجامها.
لا يمكن إصلاح وضع دور الثقافة إلا بالتفكير الجدي الشامل والبدء في التأسيس لمشروع جريء للتغيير
أتذكر حادثة صغيرة توحي بالوضع العام وكيف يتحرك، كيف تولد الفكرة وتتحول إلى ذكرى بائسة. بعد الثورة أسست مجموعة من الشباب لجنة للأدباء الشبان اقترحت على نفسها الدخول صلب وزارة الثقافة وتحديدا دور الثقافة، وطرح بدائل ثقافية، كانت رؤوس الأقلام الموضوعة من الشباب الحالمين تبشر بحركية ثقافية مغايرة عما ساد لعقود، دخل هؤلاء الشباب دور الثقافة بصفتهم منشطين ومسيرين، قدم الكثير منهم مشاريع تحاول تجديد المشهد، ولكن مرت السنوات والتهمت أغلبهم رطوبة المكاتب والبيروقراطية، وانتهت الأحلام إلى هراء.
ربما بينت جزءا بسيطا للغاية من أسباب ما حدث لدور الثقافة التي تنتشر في كل محافظات ومدن تونس تقريبا، كل من يدخلها حالما يتحول إلى مجرد موظف.
هناك قرابة 220 دار ثقافة، رقم مهم، لكن أغلبها لا تتوفر فيها شروط العمل، من تجهيزات ومن إطار تنشيطي، عدا منشطين بالحصة بمنح مادية ضئيلة ولا ينالونها حتى كتحفيز لهم على العمل. الأسباب المادية أساسية فيما وصلت إليه دور الثقافة في بلد يواجه أزمة اقتصادية خانقة، لكنها ليست السبب الوحيد ولا هي بالمبرر لما آلت إليه الدور.
ما يغيب عن هذه المؤسسات، إضافة إلى التمويل الكافي، هو الرؤية المتكاملة من قبل سلطة الإشراف عليها ممثلة في وزارة الثقافة، وحتى في مسيريها الإداريين التقليديين. بقيت دور الثقافة تعمل بنفس أساليب الستينات وما قبل الإنترنت، نواد هزيلة التأثير في الناشئين والشباب، وتظاهرات قد لا تجد لها متابعين عدا موظفي الدار وأبنائهم وأبناء أصدقائهم، كما لم تنفتح بشكل جيد – رغم المحاولات المحتشمة – على الواقع التكنولوجي الجديد والذي لا يتوقف عن التطور الهائل.
الحلول ممكنة
الوضع ليس بالقتامة التي تُسقط الأيدي وتغيّب الأمل في الشفاء، بل هناك إمكانات كثيرة للإصلاح والتغيير.
أهم عنصر أعتبره وناديت به طويلا، هو تشبيك دور الثقافة مع المؤسسات التربوية لتكون عنصرا فاعلا في العملية التعليمية. إضافة إلى ذلك يجب توسيع مفهومنا للثقافة، الثقافة ليست الأدب والفنون فحسب، هناك ثقافات أخرى، يمكن خلق مجالات للتعاون مع مؤسسات الاستثمار والمستثمرين، ولم لا توفير مجال لنقاشات علمية واقتصادية وحتى تدريبات في ذلك.
لأغلب دور الثقافة قاعات عرض وخشبات، نعم تفتقر أغلبها لمتطلبات العرض، لكن يبقى من الممكن استثمارها للتدريب المسرحي وفتح قنوات بين الفنون والآداب والتنمية. يمكن خلق تعاون بين دور الثقافة في المحافظة نفسها. علاوة على ذلك يجب فتح دور الثقافة على الاستثمار وربط علاقات مع المستثمرين وتحويلها إلى فضاءات منتجة أيضا، وهذا ممكن إذا توفر التأطير القانوني عبر التشريعات والتعاون مع كفاءات عالم الاقتصاد لوضع تصورات لهذا التمشي.
الحلول منوطة بإطار التسيير ممثلا في وزارة الثقافة، التي لا تنال من ميزانية الدولة إلا نسبة مضحكة، وهو ما يمكن تجاوزه إذا آمنت السلطة بأن الثقافة ليست ترفيها بل وسيلة تنمية وتنوير وقوة ناعمة ضد التطرف والانغلاق، وهو ما يبدو بعيد المنال حاليا، يكفي أن نرى واقع وزارة الثقافة التونسية التي تتجاذب النقابات المهنية والمسؤولون الإداريون زمامها، في صراعات سلطوية لا تقدم للثقافة شيئا غير الفراغ. ولنا في تقلص تأثير الثقافة التونسية الكبير دليل على هذا الخواء المتوسع.
قدم الكاتب التونسي حكيم المرزوقي نقده حول مفهوم دار الثقافة الأبوي والسلطوي، وهذا حقيقة، ولكن هذا لا يجب بتاتا أن يلغي الجانب الحميمي في مفهوم دار الثقافة، التي يجب أن يبقى لها دفء البيت، البيت الموازي بما يوفره من تربية وتهذيب وتأطير، لكن بشروط أخرى غير أبوية المواعظ، إضافة إلى واجبه الترفيهي أيضا الذي لا يجب أن يغيب عن مسيري هذه المؤسسات.
دور الثقافة ليست بمعزل عن واقع البلاد ككل، ليست بمعزل عما يشهده المجتمع التونسي من تقلبات والبلاد التونسية من تحديات شاملة، ولذا لا يمكن إصلاح وضعها إلا بالتفكير الجدي الشامل والبدء في التأسيس لمشروع جديد لهذه المؤسسات مستفيدين من ماضيها ومجددين مسارات عملها وتدريب مسيريها على توجهات جديدة تنفتح على التكنولوجيا والمؤسسات التربوية والمؤسسات المالية والمستثمرين، إذ يمكن التعاون بين القطاع العام والخاص في هذا الصدد والرؤى كثيرة شرط أن تناقش بجرأة والوعي بضرورة بل حتمية التغيير الجذري قبل أن تنطفئ هذه المؤسسات نهائيا.