دور الثقافة التونسية مؤسسات ستينية قضت عليها العولمة

فضاءات هرمة فقدت جاذبيتها وتحولت إلى عبء ثقيل على الدولة.
الأربعاء 2023/12/27
أبنية هرمة لا تستقطب الشباب

تنتشر دور الثقافة في مختلف الجهات التونسية، في محاولة منذ الستينات لنشر التنوير وتثقيف الأجيال الصاعدة وخلق حركية ثقافية كانت فاعلة في إنجاب أجيال من المبدعين والهواة، ولكن مع تغير الواقع باتت هذه المؤسسات بحاجة إلى تجديد أساليب عملها، وهو ما لم يحصل، لتصبح مباني منفرة للشباب وعبئا كبيرا على الدولة.

قد يتوقف عرب المشرق من زائري تونس عند كلمة “دار الثقافة” التي تعني في العموم “المركز الثقافي”، وكثرة تداولها عند الحديث عن النشاطات الثقافية في أحياء تونس وبلداتها فتوحي لهم بشيء من الألفة والاستئناس، كون الثقافة تسكن بين الناس فتجاورهم وتحاورهم في مشاغلهم واهتماماتهم بصفة يومية ومألوفة.

الحقيقة أن هذا ما أريد لها في البداية من حيث النوايا والإرادات الطيبة على كل حال، ولدى رجال دولة الاستقلال من الذين تحملوا المسؤوليات المتعلقة بالشأن الثقافي الذي راهنت عليه سياسة بلاد تفتقر إلى الثروات الطبيعية، وليس في رصيدها سوى ما يمكن أن تنتجه عقول أبنائها.

خلل جوهري

أما واقع الحال فليس ما تمنته وحلمت به تلك الإرادات الطيبة، فها هي المراكز الثقافية التي تنتشر في طول البلاد وعرضها عبارة عن أبنية هرمة بجدران وأبواب شبه آيلة إلى السقوط وتجهيزات قديمة ومعطلة ورفوف كتب ومصنفات بائسة، يديرها موظفون معطلون وينشط فيها من وقت لآخر بعض المهتمين بالشأن الثقافي مع جمهور متواضع من الحضور.

الروتين والبيروقراطية ينخران هذه المؤسسات التي عجزت عن مواكبة العصر بعد أن كانت في سبعينات وثمانينات القرن الماضي ترعى وتفرخ المواهب ويلوذ بها طالبو الفكر والمعرفة وعشاق الفن والثقافة.

ما الذي أوصلها إلى هذه الدرجة من الكسل والإهمال والعطالة؟ وهل أن خطط الدولة وإستراتيجياتها الثقافية كانت خاطئة من أساسها أم أن المشكلة في شيء آخر أو أشياء أخرى لم تتفطن إليها الجهات المسؤولة أو وقعت بفعل الإهمال والتقاعس؟

الروتين والبيروقراطية ينخران هذه المؤسسات التي عجزت عن مواكبة العصر بعد أن كانت ترعى المواهب وتفرخها

الأسباب كثيرة ومتنوعة، منها ما يتعلق بالإهمال وسوء الإدارة والتسيير، ومنها ما يتعلق بمنطق العصر الذي لم يعد يتحمل هيمنة الدولة وسيطرتها على كل النشاطات الثقافية.

الواقع أن كل خلل يفضي إلى خلل آخر في معضلة السياسة الثقافية للدولة، فما كان رائجا ومعمولا به منذ عقود لم يعد اليوم ناجعا، ثم إن “اشتراكية الثقافة” قد ولت إلى غير رجعة ولم تعد الحكومات تغدق على العمل الثقافي كما كان رائجا من قبل، مما يذكر بزمن الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية.

صحيح أن الثقافة مسألة أساسية في حياة المجتمعات ولا يمكن التفويت فيها لصالح جماعة المضاربات ومنطق السوق والربح والخسارة، لكن الإصرار على فكرة أن الدولة يجب أن تسيطر وتغدق على النشاط الثقافي أمر خاطئ ولم تعد له مبرراته في عصرنا، ومن شأنه أن يشجع جيوب الفساد ويفسح المجال للمحسوبيات ويأخذ بأيادي عديمي الموهبة على حساب الأكفاء.

الحقيقة أن المراكز الثقافية أصبحت عبئا على الدولة التي تنتدب لها جيشا من الموظفين الذين لا يفعلون شيئا سوى قبض الرواتب آخر الشهر.

وبالمنطق الحسابي الواضح البسيط، فلو أن الدولة قد استغنت عن المراكز الثقافية لاستفادت على جميع المستويات، ليس من ناحية الكلفة المالية فقط بل على الصعيد المعرفي والثقافي، ذلك أن بعض هذه الدور الثقافية تكرس الرداءة في برمجياتها وتفسد أذواق الناشئة.

غالبية الخطط المقترحة لتحسين أداء المراكز الثقافية باءت بالفشل لأن الخلل أصبح هيكليا يتعلق بالبنية من أساسها، فمنذ سنة 2001 أقر مجلس وزاري بخطة وطنية لتأهيل دور الثقافة وأفضت إلى اعتماد وظائف أساسية جديدة تتمثل في رعاية المواهب والتكوين في المجالات الإبداعية وتطوير صيغ العرض الثقافي وتوفير فضاءات اللقاء والحوار ونشر ثقافة الإبداع الرقمي وبعث فضاءات للثقافة متعددة الوسائط، وغير ذلك من البرمجات التي تبدو في ظاهرها طموحة وجدية، لكن واقع الحال يبدو عكس هذا تماما.

مؤسسات فقدت جاذبيتها

المراكز الثقافية أصبحت عبئا على الدولة التي تنتدب لها جيشا من الموظفين لا يفعلون شيئا سوى قبض الرواتب

يبدو أن حتى الجديين من الذين يقدمون الاقتراحات الجدية لتحسين أداء دور الثقافة في تونس، قد فاتهم أنهم وقعوا في مطب منهجي يتمثل في اقتراح حلول تتصل بالقرن الماضي ونحن في الألفية الثالثة.

وفي هذا الصدد يؤكد المدير العام السابق لـ”مرصد الشباب” (مؤسسة رسمية)، أستاذ علم الاجتماع، محمد الجويلي أن “دور الثقافة هي نتاج دولة الستينات، أي مرحلة بناء الدولة الوطنية، وكانت هذه المؤسسات حاضنة فعليا للشباب في ذلك الوقت، وقامت بدورها في التأطير والترفيه والتثقيف، إلا أن العولمة قضت على هذه المؤسسات التي فقدت جاذبيتها، ولم تعمل على تغيير مضامينها”.

وأضاف الجويلي أن “الشباب التونسي يجد صعوبة كبيرة في الاندماج بهذه الفضاءات التي تقادمت لوجستيا وتآكلت بنيتها التحتية وأصبحت عبئا على الدولة. كما لم تتغير التشريعات التي تنظم هذه الفضاءات ومازالت تحمل الاسم نفسه ‘دار الثقافة’ منذ ستينات القرن الماضي، بينما يحيل الاسم رمزيا إلى العائلة وسلطة الأب والنمطية، التي لم يعد يرغب فيها شباب اليوم، الطامح دوما إلى الانعتاق من كل ما هو مقنن وكلاسيكي”.

الأمر الآخر الذي يجب أن يؤخذ في الاعتبار هو أن مفهوم الثقافة نفسه قد تغير، ولم يعد يتعلق بذلك الجانب التربوي المبني على مجموعة من القيم والقواعد والتعاليم بل أصبح أكثر براغماتية ومجاريا لأحدث الإبداعات التكنولوجية كالذكاء الاصطناعي الذي من شأنه أن يخلخل مفاهيم كثيرة.

ومع ذلك، فإن المتابع للشأن الثقافي التونسي، ورغم كل الهنات والهزات والتراجعات، ما عليه إلا أن يثمن تلك الجهود الجبارة التي قام بها الجيل المؤسس.

12