دواعي تأخر اقتحام طرابلس

الجيش نجح في تدمير أكثر من نصف إمكانات الميليشيات، ولكن الأهم من ذلك أنه أمسك بقصب السبق في الجو، وحوّل الأرض إلى مصيدة للإرهابيين.
الجمعة 2019/11/01
كسر شوكة الميليشيات

السبت القادم تكون قد مرت ستة أشهر على إطلاق الجيش الوطني الليبي عملية “طوفان الكرامة” لتحرير طرابلس من حكم الميليشيات المسلحة وجماعات الإرهاب ودواعش المال العام، والتي دشنت في الرابع من أبريل الماضي بقرار من القيادة العامة للقوات المسلحة، وتداخلت فيها معطيات عدة محلية وإقليمية ودولية، لعل أبرزها الاندفاع التركي المحموم لدعم الميليشيات بالسلاح والخبراء ونقل الإرهابيين من شمال سوريا إلى محاور القتال في غرب ليبيا.

كثر هم الذين يتساءلون: ولكن إلى أين وصلت المعركة؟ عندما يجيب أمراء الحرب عن هذا السؤال، سيقولون أن ميليشياتهم صمدت في ساحات القتال، ومنعت “قوات حفتر” من اقتحام العاصمة، فأطاحت بـ”الانقلاب العسكري” على “الدولة المدنية”، وكبّدت “الغزاة” خسائر في الأرواح والمعدات.

أما الجيش الوطني فسيجيب بأنه صار على بعد كيلومترات من قلب العاصمة، وسيطر على مواقع إستراتيجية مهمة حولها، وبات يهيمن على أجواء البلاد بما في ذلك المنطقة الغربية، ونجح في تكبيد الميليشيات خسائر كبرى، وفي القضاء على أعتى رؤوس الإرهاب والتمرد، وفي رفع سقف أهدافه بقصف مدينة كانت تعتبر محصنة وهي مصراتة، وفي ضرب مواقع العدو وسط طرابلس ذاتها، وفي الرد بقوة على التدخل التركي عبر استهداف منصاته وغرف عملياته.

الجيش استطاع كذلك أن يتمركز في واحدة من أهم مدن غرب البلاد وهي ترهونة، وأن يحصّن مواقع انتشاره في صرمان وصبراتة والعزيزية وأغلب مناطق محيط طرابلس، وفي قاعدة الوطية الجوية، وأن يحمي بتلك التمركزات المهمة مواقع نفوذه في الجبل الغربي وأن يقطع طريق الجفرة والجنوب أمام الميليشيات، وأن يقضي على أعداد كبيرة من فلول متشددي المنطقة الشرقية الذي فروا نحو غرب البلاد بعد هزائمهم في معارك أجدابيا وبنغازي ودرنة.

كما يمكن للجيش أن يتحدث عن نجاحه في تكريس شرعيته الوطنية بعد أن بات يجمع في صفوفه مقاتلين من مختلف جهات ومدن وقرى وقبائل ليبيا، وعن تحقيقه مصالحة وطنية تحترم السير التاريخي للقوات المسلحة، وكذلك عن دخوله ساحات المعارك بعقيدة عسكرية موحدة وتراتبية وظيفية احترافية تعيد إليه الاعتبار على رأس مؤسسات الدولة.

أما عن تأخر معركة الحسم، فالموضوع يبدو شائكا وكثيرا ما يحاول المسؤولون عدم الخوض في تفاصيله. لكن الواضح أن ما يدور في ليبيا ليس بعيدا عمّا يدور في الإقليم والعالم، القوى الدولية المؤثرة تبدي تأييدا لعمليات الجيش الليبي، رغم أن بعضها قد يثير بعض التحفظات، ولذلك لم يصدر أي قرار دولي ملزم بوقف المعارك، أو حتى بالتنديد بتقدّم الجيش، ولم يعد خافيا أن القيادة العامة للقوات المسلحة تحظى بتفهم أغلب العواصم بما في ذلك واشنطن، وهي اليوم القوة الأبرز ليس في ساحة المعارك فقط، وإنما كذلك في ما يتعلق باتخاذ القرار السياسي، بعد ثبوت فشل المجلس الرئاسي واعتماده على قوى إرهابية ومرتزقة في محاولة صده “طوفان الكرامة”.

لكن الواضح كذلك أن العالم يريد من الجيش القضاء على أكثر ما يمكن من مسلحي الميليشيات والجماعات الإرهابية، وأن يستنزف جميع إمكانياتها قبل اقتحام العاصمة، لا أحد من القوى الكبرى يمكن أن يدافع عن مسلحين خارج القانون، أو عن أمراء حرب يعلمون على عرقلة إعادة بناء الدولة، ولا حتى عن حكومة تتمترس وراء مرتزقة وإرهابيين ومجرمي حرب وتجار بشر ولصوص متخصصين في نهب المال العام.

كل المؤشرات تؤكد أن العالم بات يدرك طبيعة الميليشيات المسيطرة على طرابلس، وبالتالي فهو يطلق أيادي الجيش للقضاء عليها، ولكن حتى هذا الموقف يمثّل بالأساس اختبارا للقوات المسلحة، ستكون أغلب العواصم المؤثرة إقليميا ودوليا سعيدة بتدمير بنية الميليشيات وتصفية رموزها وإنهاء دورها، ولكن على أن يكون ذلك على أيدي القوات المسلحة دون غيرها.

يمتلك الجيش الوطني الليبي من القوة العسكرية ما يجعله قادرا على دخول العاصمة ليس الآن فقط، ولكن منذ الأيام الأولى لعملية طوفان الكرامة، وليس خافيا أن الوحدات الخاصة قادرة على تنفيذ عمليات إنزال في قاعدة بوستة البحرية حيث مقر المجلس الرئاسي، وعلى خوض حرب شوارع مع الميليشيات من قبل قوات متدربة على العمليات داخل مناطق العمران، وكان لبعضها دور الحسم في بنغازي ودرنة.

لكن ما يمنع ذلك هو أن القضاء على الجانب الأكبر من الميليشيات هو مفتاح طرابلس، واقتحام العاصمة ليس قرارا فرديا من قبل القيادة العامة، وإنما هو قرار إقليمي ودولي لم يُتّخذ بعد، وسبب التأخر في اتخاذ القرار أن العالم لا يريد لطرابلس أن تكون مجالا لحرب أهلية تذكّر ببيروت وكابول ومقديشو وسراييفو، المطلوب هو أن يكون دخول العاصمة الخطوة الأخيرة التي يخطوها الجيش بعد إنهاك مسلحي الوفاق وإنهاء دورهم.

اليوم وبعد ستة أشهر يمكن القول إن الجيش نجح في تدمير أكثر من نصف إمكانات الميليشيات، ولكن الأهم من ذلك أنه أمسك بقصب السبق في الجو، وحوّل الأرض إلى مصيدة للإرهابيين، ودفع بالعالم للاعتراف بنجاحه في ذلك، ولن يطول الانتظار قبل أن نرى قواته تقتحم طرابلس، أما المؤتمرات والاجتماعات وغيرها، فهي تستهدف بالأساس ترتيب ما بعد تلك المرحلة، فلا أحد مع الميليشيات ولكن لكل طرف القوى التي يريد أن يراهن عليها في المشهد السياسي القادم.

9