دموع وارفة الظلال

لم يعجبني الظّل في يوم ما، أعتقد أن وقته لا يعجبني، لكن مكانه هو أمر آخر مختلف جدا، فظلّ شجرة وارفة في الطريق يعادل بركة ماء. طوال الحياة وأنا أنظر إلى الظّل على أنه خائن ومتطفل، لأنه يقدم الولاء لليل في عزّ النهار، يطعن والده في قمّة الضّياء.
فهل الظّل هو قطعة من الليل يستأجرها النّهار بمحض إرادته، أم أنه جاسوس معلن لليل، لا أدري كيف أفسر ظاهرة الظّل، هل هي ظاهرة وطنية محكومة بانتمائها إلى الطبيعة الطّيبة ودورتها، أم أنها تحيز للنهار على حساب الليل. أم أن العكس صحيح.
هب أنك تمشي ليلا وتمشي معك قطعة مضيئة، هو بلا شك شيء مريب. بماذا ستسميها؟ لكنك تمشي نهارا وتمشي معك قطعة مظلمة، اسمها ظلّ، ليست مريبة لك.
أشعر بالشفقة عندما أركض على ظلّي النحيل، لأني لا أسمع صوت لهاثه أو حتى اعتراضه. لا أعتقد أن المفردات ستسعفني إذا فكرت باسم لنقيض الظل الذي لو أتيح له الوجود لمشى معنا في الليل، ما سيكون اسمه لو وجد؟
وبما أني ابن مخيم، أمضيت طفولتي ألعب الدحاحل (الكوازيز) في أزقته، حتى تتخرش يداي في العطلة النصفية أو عطلة الربيع كما يسميها البعض، كنت دائما أجد أنّ المخيم هو ظلّ فلسطين، فالظلُّ هو الابن العاق للنهار يخون أباه ويبايع الليل في ذروة الضوء. وجمال فلسطين أنّها وارفة الظلال على كل أصقاع العالم.
ظلال فلسطين تسير عكس عقارب السّاعة، فتضخّ الرجاء في كل الأرجاء، لعل الدم القاني هو جدول الحياة في البلاد الكسيرة.
هذه البلاد التي ينتعل مواطنوها حذاء الوحل والشوك منذ حوالي قرن كامل، يلجأون وينزحون ويهجّرون، يمارسون النزوح كهواية قسرية خطرة متوارثة، كأجدادهم وآبائهم من قبل وأبنائهم وأحفادهم من بعد.
يركضون ويهرولون ويمشون ويزحفون من شمال غزّة إلى جنوبها ومن مستشفى الشّفاء إلى المستشفى الكويتي، ومن خان يونس والشجاعية ودير البلح إلى رفح، ومن رفح إلى المواصي، ومن مقبرة جماعية إلى أخرى ومن تعب ونصب إلى تعب ونصب بلا سبب، سوى أنّ حاكم غزّة معجب جدا بقصة أصحاب الأخدود التي وردت في سورة البروج في القرآن الكريم وغاية طموحه أن تعاد هذه المحرقة على أرض غزّة؛ فهم، كما وصف نفسه ورفاقه على شاشة إحدى القنوات، “مجانين غزّة”.
كيف لعصبة مجانين أن تحكم أكثر من مليون ونصف مليون عاقل؟
تماطل بالموافقة حتى يهاجم العدو رفح، وتقبل فيما بعد، تتلكأ وتتأخر، ويدفع الشّعب الثمن، وتضخم من قدراتها المحدودة، وتشارك في هذه المهزلة كبرى القنوات الفضائية، تتصرف كمن يظهر ظل وحش صغير على ضوء الشمعة في الليل الدّامس ليرعب الصغار.