دلال جويد: دبي علمتني كيف أكون صحافية ولندن أعادتني إلى الحب والدهشة

هناك الكثير من الشعر خارج القصيدة، في ألوان الحياة وحركات الناس اليومية ووجود الكائنات وغيرها من تفاصيل قد تشكل حالة جمالية وحسية مثل التي يوفرها الشعر. هذا ما يعيه الشعراء بحدة. “العرب” كان لها هذا الحوار مع الشاعرة العراقية دلال جويد حول الشعر وواقعه.
دلال جويد شاعرة وإعلامية عراقية درست الأدب في جامعة البصرة، تعيش وتعمل في لندن، ولها عدة مجموعات شعرية وكتاب نقدي والعشرات من الموضوعات والتحقيقات التي نشرت في مطبوعات مختلفة خلال مدة عملها في مجال الكتابة الصحافية.
وترى جويد أن الشعر هو اكتشاف للحياة ودهشاتها المختلفة وبالتأكيد هو إعادة إنتاج لهذا الاكتشاف، لذا كان يعنيها أن تعيش بروح شاعرة مندهشة أكثر من أن تكتب، ففي مرحلة ما وصلت إلى حالة الشعور بلا جدوى الكتابة والشعر فقد عرفت الكثير من الشعراء الذين لا يشبهون قصائدهم وكان يهمها أن تشبه القصيدة التي في رأسها حتى لو لم تدونها، وبالتأكيد هذا لا يعني أنها توقفت عن الكتابة.
القصيدة والمرأة
عن رحلتها بين دبي ولندن التي شكلت منعطفا استكشافيا في حياتها، تقول جويد في حديثها لـ”العرب”، “دبي كانت بيئة العمل الحقيقية الأولى لي وهي بيئة مليئة بالتحديات وتحمّل المسؤولية، وقد صقلتني كثيرا وتعلمت فيها كيف أكون صحافية ناجحة صانعة للأفكار وقادرة على الإنتاج. وفي الوقت ذاته كانت على مرمى وردة من البصرة حيث أهلي ومدينتي ووطني، لذا لم أعش غربة حقيقية فيها وإنما عشت فكرة الإنسانة المنتجة القادرة على مساعدة الآخرين في أيام الحصار والقحط، وهذه فكرة تشعرني بالرضا عن نفسي، ولكني في الوقت ذاته لم أكن الشاعرة التي أعرفها، ولا المتمردة التي تركتها على مدرجات الجامعة فلا وقت لدي سوى للعمل”.
وتضيف “ما إن غادرت إلى لندن حتى واجهت الغربة الحقيقية، واجهت فكرة أن أكون أما وحيدة تبحث عن عمل وتبدأ من الصفر، محاطة بحواجز كثيرة منها اللغة والبعد وذل اللجوء، لكني وجدت متسعا من الوقت لأتأمل حياتي ووجدت الدوافع الكثيرة لأتعلم التأقلم وأتعلم لغة أخرى جعلتني أعيد النظر في طريقة تعاملي مع لغتي الأم، وعلمتني كيف أشذبها وأحذف منها أحمالها الثقيلة وأعطتني الوقت الكافي لأكتب الشعر، لندن أعادتني إلى الحب والدهشة مرة أخرى”.
وحول دراستها الأكاديمية في الشعر والنقد الأدبي وتخصصها فيه، تقول الشاعرة العراقية “أعتقد أن مهمة الشاعر الآن لا تكمن في المديح أو الهجاء وإنما في توليد الأسئلة، تلك الأسئلة التي قد تغير في حياته وتوجهاته ولو قليلا، أنا لا أؤمن كثيرا بالهتافات بقدر إيماني بصناعة الوعي، والقصيدة يمكنها أن تصنع هذا الوعي، فحين أكتب نصا شعريا عن جرائم الشرف يهمني أن تتولد أسئلة عن مدى وحشية تلك الجرائم، فإدانتها في الوعي الجمعي تضاهي أهمية القانون الذي يمنعها ويعاقب عليها”.
وعن مجموعتها الشعرية “دمعة وحيدة مطر كثير” ورسائلها إلى المتلقي، تلفت إلى أنه من الصعب كتابة ما ترغب بتوصيله إلى القارئ في إجابة قصيرة، ففي الحقيقة الإجابة موجودة في قصائد المجموعة نفسها، التي تجمعت بين ثيمتين مهمتين من وجهة نظرها هما الحب والحرب.
المنافسة الحقيقية ليست بين الشعر والرواية وإنما مع أنواع الفنون الأخرى التي صارت حاضرة بقوة في حياتنا
وتتابع جويد “هي قصائد حب حد النخاع وكتبتها لأني أؤمن بأهمية أن تعبر المرأة عن الحب بطريقتها لا بطريقة الرجل. وأعني بذلك عدم استخدام اللغة الذكورية في التعبير عن الحب، وأنا أستخدم لغة تبدو سهلة وفي متناول القارئ لكنها ليست كذلك، وأستخدمها بوعي وإيمان بأن يقدم النص الأدبي بعيدا عن استعراض العضلات الثقافية فيه، فما جدوى أن أقدم نصا محملا باللغة القاموسية المقعرة ولا يصل إلى المتلقي؟”.
نصف قصائدها بالسر رغم سهولة اللغة التي تستخدمها، وتعلق هي “مرة أخرى أقول إن اللغة التي أستخدمها ليست بسيطة فأنا حريصة على بناء القصيدة بشكل يخدمها ويقدم فكرتها والصورة الشعرية مهمة جدا عندي في الكتابة والسرد كذلك مهم إذا كان يقدم إضافة حقيقية للقصيدة، وهو ليس جديدا على النص الشعري فشعراء ما قبل الإسلام استخدموا السرد في قصائدهم، ولا أستطيع أن أتحدث عن الشعراء الآخرين، لكن عن نفسي لغة الحياة اليومية ثرية ومليئة بالتفاصيل التي يمكن أن تكون رؤية واسعة للحياة ككل، فنحن نعيش في تلك التفاصيل، فضلا عن أن الكتابة الأنثوية لا بد أن تهتم بالتفاصيل لأن هذا الاهتمام هو واحد من أهم ميزات المرأة”.
الشعر والفنون
مهمة الشاعر الآن ليست المديح أو الهجاء وإنما توليد الأسئلة التي قد تغير في حياته وتوجهاته ولو قليلا
حول الحركة النقدية في الوطن العربي، ترى الشاعرة أنها موجودة وصحية وقوية، مضيفة “التقيت خلال حضوري مهرجان المربد في البصرة عددا كبيرا من النقاد المهمين الذين يمتلكون أدواتهم النقدية ويعرفون ما يريدون، ومثل أي مجال في الحياة هناك الطارئ وهناك من يكرس جهده وعلمه في تقديم نظريته النقدية، ولكن عند بعض النقاد ربما نحتاج إلى أن نخفف من تعلقنا باستعراض الأسماء الغربية في النقد لأني أشعر أن الناقد الذي يحرص على ذكر تلك الأسماء لا يمتلك الثقة الكافية بما يقول فيستمد قوته منها، إضافة إلى أن اعتماد اللغة المترجمة عند بعض النقاد يجعل نقدهم مبهما عائما مفرغا من المعنى”.
وبسؤالها عن العلاقة الشائكة بين الشعر والصحافة، والحساسية الجمالية التي تميّز المادة الإعلامية التي يكتبها الشاعر، تجيبنا جويد “أجمل الموضوعات الصحفية هي التي يكتبها شاعر أو شاعرة، ففيها متعة جمالية تبدأ من اختيار العناوين وحتى آخر كلمة في المادة الإعلامية، وهنا أخص الشعراء الإعلاميين بحق الذين يفهمون ماهية الإعلام وأهميته، ويحذرون من طغيان الشعر على لغة الصحافة حتى تفقد موضوعيتها، في الصحافة اللغة حساسة جدا لأنها تستهدف مختلف شرائح المجتمع ولا بد من تحري المعلومة ووجهات النظر والحيادية قدر الإمكان”.
أما عن تراجع الشعر أمام الحضور الكبير للرواية، فلا تعتقد جويد ذلك، بينما تقر بأن القراءة هي التي تراجعت لصالح المرئي والمسموع من المنتجات، في اعتقادها إن أجمل تجسيد للشعر والفن والرواية حاليا هو السينما التي صارت أمّا للإبداع، لذا فالمنافسة ليست بين الشعر والرواية وإنما مع أنواع الفنون الأخرى التي صارت حاضرة بقوة في حياتنا.
وتتابع “هل تعرف أن الأمية الحقيقية بمعنى عدم القدرة على القراءة والكتابة أصبحت متفشية بشكل واسع، لذا كل كتاب مطبوع الآن هو نخبوي، فما بالك بالشعر المكتوب؟ ولكن لأن الشعر هو منتج إنساني مثله مثل أنواع الفن كالرسم والنحت فأعتقد أنه يعرف كيف يجد طريقه إلى العقول والقلوب”.
وبسؤالها عن رحلة الشعراء مع الغربة التي لا تنتهي في كل زمان ومكان، تجيبنا جويد “الغربة رافقتني سنوات طويلة من عمري وما زالت، ومنذ المجموعة الأولى كانت دمعتي وحيدة تحت مطر لندن الكثير، والمجموعة الثانية جاءت بعنوان كيف تُدجِّن غربة التي لم ولن تُدَجَّن فنحن أبناء الشمس والنهر يمكننا أن نذهب إلى آخر الدنيا وتبقى نياط القلب مشدودة إلى الوطن، لذا تتسرب الغربة إلى المفردة والصورة الشعرية، ولكن الغربة نفسها هي التي استقبلتني وأعطتني الأمان وساعدتني في تربية أطفالي وتعليمهم ووفرت لهم حقوقهم التي من الصعب توفيرها في الوطن”.
أما عن جديدها فتقول دلال جويد في ختام حديثها مع “العرب”، “خلال الشهر الماضي صدرت لي مجموعة ‘في الوردة ما تيسر منك’ وهي المجموعة الشعرية الثالثة لي حيث يعمل الأستاذ محسن عواد على ترجمتها إلى اللغة السويدية. وأعمل الآن على إكمال أطروحة الدكتوراه في الأدب العربي قبل الإسلام، فضلا عن أني أسست مع مجموعة من الأدباء والفنانين ‘مركز لندن للإبداع العربي’ ليكون منصة للمبدعين العرب في شتى المجالات لتقديم إبداعهم حيث نعمل على إقامة أول مهرجان للشعر العربي في بريطانيا”.