دكتاتورية الغوغاء

الالتجاء إلى الشارع مهم في بعض المواقف ولكنه يجب أن يكون التجاء حذرا لا يتجاوز هدفه ووقته، فالناس إذا استمرأوا لعبة الضغط والاستعراض قد يصبحون عامل عرقلة وإرباك للسلطة السياسية أيا كانت.
تحمّس الناس للدور الذي لعبوه في التغيير السياسي الذي شهدته تونس في الفترة الأخيرة، وقبله ثورة 2011، جعلهم يبالغون في الاستعراض والضغط حتى أن الأمر خرج من الشأن السياسي إلى العامة، وتحولت شعارات التغيير إلى شعبوية تؤسس لسيطرة العامة على المشهد العام.
بات الناس يحكمون بأنفسهم على جودة العروض الفنية والمسرحية، يقاطعون وينسحبون ويرفعون شعارات الغضب لأن هذه اللقطة لم ترق لهم، أو لأن الفنان قد تعرض لهذه الفئة بنقد كاريكاتيري جعلها تستاء كما حصل مع الفنان المسرحي لطفي العبدلي في أحد عروضه بمدينة صفاقس، وهي العاصمة الاقتصادية للبلاد.
رجال الشرطة الذين حضروا العرض انسحبوا من حمايته وحذروا من أنهم لن يسمحوا في المستقبل بأي عرض ينافي الحياء، وقال العبدلي وأحد معاونيه إنهما تعرضا لضغوط شديدة فيما قال الأمنيون إن العرض شهد تهجما مجانيا على رجال الشرطة دون سبب، وإن المسرحية تحرض الناس عليهم بدل الاعتراف بدورهم في حماية الانتقال الذي شهدته البلاد منذ 2011.
لم يكن عرض صفاقس هو الوحيد الذي تدخلت فيه رقابة العامة على العروض المسرحية والغنائية؛ مقداد السهيلي منعوا عرضه في مهرجان المنستير بتعلة أنه سبق وأن انتقد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، وهو ابن المدينة، وله الفضل في ما تعيشه من وضع إيجابي قياسا بغيرها من مدن الداخل.
وهناك عروض أخرى أثارت ضجة لأنها تعرضت لمواضيع الدين والحجاب، فالجمهور لم يعد يحتمل رأيا يخالف رأيه، ولقد غذت فيه مرحلة ما بعد الثورة الغرور وعدم تحمل سلوك آخرين ولباسهم. فالمتدينون صاروا يهاجمون النساء اللاتي لا يلبسن الحجاب في الأماكن العامة، ومعارضو الحجاب لا يفوتون الفرصة لمهاجمته واستفزاز لابساته في الجمعيات المدنية والجامعات وفي الفنادق. صحيح أنه توجه فردي، لكنه يؤشّر على وجود مخاطر حقيقية ستهدّد الحريات الفردية في المستقبل.
لن تطال دكتاتورية الغوغاء السياسيين والفنانين وحدهم؛ الخطر أن تتحول إلى صراع بين العامة أنفسهم حول الأذواق واللباس والمناطق والعشائر، وهو ما حدث في أكثر من منطقة في السابق ضد سكان المناطق الداخلية الذين انتقلوا إلى المدن ليبنوا أحزمة كبيرة حولها.
هؤلاء سبق أن تعرضوا إلى تمييز واحتقار واعتداءات بزعم أنهم “عرب” أو “عربان” بلا ثقافة ولا تقاليد وأنهم جاءوا إلى المدينة ليلوثوها، وقد اشتركت الدولة في مرحلة ما في هذه “الحرب” من خلال تنظيم حملات أمنية ومطاردات لإرجاع هؤلاء “النازحين” إلى قراهم على شاكلة ما يجري الآن مع المهاجرين غير الشرعيين في أوروبا.