دعونا نصارح الشعراء بأسباب تراجع الشعر

يعيش الشعر العربي فترة تراجع كبيرة، وهذا ما تثبته مختلف الدراسات والبحوث، آخرها ما أصدرته أكاديمية الشعر العربي بجامعة الطائف السعودية في تقريرها عن حالة نشر الشعر في مصر، حيث وضّح التقرير أن هناك تراجعا حادا في نسب نشر الشعر. ولاحظ التقرير أن نسبة نشر دواوين شعر الفصحى خلال العام الماضي 2018، بلغت حوالي 1 بالمئة فقط من جملة الكتب المنشورة، و3.7 بالمئة من جملة المنشور في الأدب عموما، و25 بالمئة من جملة المنشور في الشعر فقط.
في محاوراته الشهيرة مع إيكرمان، يشير غوته إلى أن الشاعر إذا ما اكتفى بالتعبير عن البعض من عواطفه الخاصة، فإنه لا يمكن أن يعتبر شاعرا بالمعنى الحقيقي للكلمة. بل إنه سيكون شاعرا إن هو تمكّن من “امتلاك” العالم، ومن التعبير عنه بعد أن يصبح عالمه الخاص. عندئذ تتوفر له فرصة التجدد والتطور المتواصلين. أما الشاعر الذي ينغلق داخل ذاته مُتوَهّما أنها عالم فسيح وثريّ فإنه سرعان ما يجد نفسه تائها في الخواء والفراغ.
ولو نحن عدنا إلى تاريخ آداب العالم لعاينّا صحة فكرة صاحب “فاوست”. فهو ميروس اليوناني لم “يمتلك” فقط عالم عصره، بل عالم كل العصور. لذا لا تزال العودة إلى رائعتيه “الأوديسة” و”الإلياذة” قائمة إلى حد هذه الساعة ليكون أبطاله حاضرين في الذاكرة الإنسانية على مر العصور.
بل إن مبدعا كبيرا مثل جيمس جويس جعل من أوليس، بطل “الأوديسة”، رمزا للإنسان الحديث التائه في مدينة كبيرة تعجّ بالتناقضات والصراعات، وفيها تقل الأجوبة، وتتعدد الأسئلة الحارقة والمُحيّرة. وقد يكون أوليس مجسّدا أيضا لهجرات زمننا، حيث تجبر المجاعات والحروب والأنظمة الاستبدادية الفاسدة أعدادا وفيرة من الناس على ترك أوطانهم الأصلية ليلقوا بأنفسهم في مراكب الموت، أو في شاحنات عصابات الجريمة المنظمة بحثا عن الخلاص.
الشعراء أصبحوا منشغلين بعوالمهم الذاتية بشكل مبالغ فيه، فلا نجد في قصائدهم صدى لما يحدث من حولهم
ولو نحن عدنا إلى أبي العلاء المعري، الذي اختار العزلة في مسقط رأسه معرة النعمان، لعثرنا في أشعاره على ما يعكس حيرة العرب والمسلمين عموما في هذا الزمن الأغبر الذي تأججت فيه الفتن والنزاعات العقائدية والدينية لتفسد حياتهم، وتزيدها تعفّنا واحتقانا.
وقد تحيلنا ملاحظة غوته الرشيقة إلى واقع الشعر العربي راهنا. وكثيرون هم الشعراء من المشرق ومن المغرب الذين لا ينقطعون اليوم عن التشكي والتذمّر من تقلص الإقبال على الشعر، ومن القاعات الفارغة في المهرجانات الشعرية، ومن لامبالاة الجمهور بهم فلكأنهم يصرخون في واد قاحل وموحش لا يسمعون فيه غير صدى أصواتهم. والمواسون لهم في كربتهم يقدّمون لهم أعذارا تبدو منطقية في ظاهرها إلا أنها غالبا ما تتجنّب طرحَ وكشف الأسباب الخفية.
فهؤلاء المواسون يشيرون مثلا إلى أن ظاهرة تراجع الإقبال على الشعر باتت ظاهرة عالمية. والدليل على ذلك أن الدواوين الشعرية تباع بكميات ضئيلة للغاية في كبريات مكتبات باريس، وروما، ولندن، ونيويورك، وطوكيو، وبرلين. وهذا صحيح إلى حد ما. لكن علينا أن نقرّ بأن المهرجانات الشعرية التي تنتظم في البلدان الأوروبية لا تزال تشهد إقبالا كبيرا من قبل أحباء الشعر. وفي مطلع الربيع من كل عام، تستقبل ساحات باريس العشرات من الشعراء من جميع أنحاء العالم لينشدوا قصائدهم أمام جمهور غفير، وتتصدّر الدواوين الشعرية قائمة الكتب الأكثر مبيعا.
ويرى المواسون أيضا أن انحسار الإقبال على الشعر العربي يعود إلى الانتشار الواسع الذي أصبحت تحظى به الرواية راهنا حتى أن البعض من الشعراء العرب المعروفين تحوّلوا خلال الفترة الأخيرة إلى روائيين. وهذا صحيح أيضا إلى حد ما.
لكن لا بدّ من الإقرار بأن النجاح الكبير الذي حققته الرواية يعود إلى أنها تمكّنت من أن تكون عاكسة للواقع العربي، وللقضايا الاجتماعية والسياسية والنفسية أكثر من الشعر. ويعود ذلك إلى أسباب عدة منها أن جلّ الشعراء العرب أصبحوا يميلون إلى كتابة قصيدة النثر التي هي جديدة وغريبة عن الذائقة العربية. ثم إن هؤلاء الشعراء أصبحوا منشغلين بعوالمهم الذاتية بشكل مبالغ فيه حتى أننا لا نجد في قصائدهم سوى صدى باهت لما يحدث من حولهم.
ويزداد هؤلاء توغلا في عوالمهم الذاتية عندما يجدون أنفسهم مجبرين على ترك أوطانهم ليعيشوا مرارة المنفى وأوجاعه. لذا تأتي قصائدهم مُحَمّلة بهمومهم وآلامهم الشخصية التي قد تثير جمهور الشعر، بل قد لا تعنيه أصلا. لذا هو يعزف عن سماعها وقراءتها، خصوصا حين يغوص أصحابها في الغموض والإبهام.
ومعنى هذا أن الشعراء العرب في الزمن الراهن لم يتمكّنوا بعد من “امتلاك” العالم الذي من حولهم مثلما كان حال كبار الشعراء العرب المحدثين والمجددين. فالسياب مثلا أمضى سنوات طويلة متنقلا بين المصحات بسبب مرض السل الذي قتله في النهاية. ورغم ذلك جاءت قصائده عاكسة لأزمات العراق، وأوجاع شعبها. لذا لا تزال الألسن ترددها إلى حد اليوم.
وكان أبو القاسم الشابي يعاني من داء القلب الذي قتله وهو في الخامسة والعشرين، لكن قصائده عكست إرادة جيل غاضب ومتمرد وطامح إلى حياة أفضل سوف تظل حاضرة في الذاكرة إلى أمد طويل. وأما نزار قباني فقد حوّل مأساة عائلية تمثّلت في انتحار أخته بسبب قصة حب إلى قصائد جسّدت رغبة المرأة العربية في التحرر من قيود التقاليد، ومن سلطة الرجل الشرقي الذي يجبرها على العيش وراء الأبواب المغلقة.