دراويش تركيا وعبيدها في مصر

من الحقائق التاريخية أن نحو أربعة قرون من الاحتلال العثماني لمصر لم تترك أيّ أثر إيجابي. ومن هذه الحقائق أيضا أن مصر سجلت رقما قياسيا لوقوع دولة تحت احتلالات عسكرية متصلة، منذ غزو الإسكندر عام 332 قبل الميلاد حتى إنهاء ثورة يوليو 1952 للاحتلال البريطاني.
اتفقت سلالات هؤلاء الغزاة على تجريد الشعب من السلاح، ومنع تأسيس جيش “وطني”. وحدث لهذه القاعدة استثناءان نادران، أولهما في عهد الوالي سعيد في خمسينات القرن التاسع عشر، إذ سمح لأبناء الميسورين بالترقي، ومنهم صعد أحمد عرابي، وقاد ثورة تطالب بالدستور ورقابة البرلمان على الحكومة. وثانيهما إتاحة معاهدة 1936 لأبناء الفقراء الالتحاق بالكلية الحربية، فتمكن خريجو الدفعة الأولى من قطع ذيل الأسد البريطاني، بعد فشل العدوان الثلاثي عام 1956.
فأين نضع الاحتلال العثماني في هذا السياق؟ ولماذا يحظى الآن، في عام 2020، بدراويش مستلبين، عبيد من المشايخ والإعلاميين والكتبة فاقدي الرشد، تعمى بصائرهم فلا يرون دماء عرب مسلمين تتلوث بها الآن أيدي أحفاد السفاح سليم؟
لا يشغلني قطيع في تركيا، يأكل من مال السلطان فيحارب بسيفه، ويعزف نغمة إعلامية ودينية تستهويه. في 2018 يدنس السلطان بلدة عفرين السورية بغزو ينكأ جراح لواء الإسكندرون، فيرحبون بالغازي زاعمين أنه سيحرر السوريين.
ويرسل مدمراته ومرتزقته إلى ليبيا فيتعللون بمظلة “الشرعية” التي يستنكرونها على نظام الأسد باستدعائه وجودا روسيا مقيما، ولا يجرؤون على ذكر أن “جمهورية شمال قبرص” غير شرعية، ولا تعترف بها إلا تركيا التي اصطنعتها. أتجاهل هؤلاء، وأتكلم عن مصريين يعيشون بيننا، منهم “مثقفون” خائبو الرجاء وصحافيون وسلفيون يؤمنون بجهاد الاقتصاد؛ ومنه يرجع “المجاهد” بعبيد يفكّ ببيعهم ضائقته المادية، وينعم بإماء ينفّس بهن عن كبته الجنسي.
أحدهم يلقب نفسه بالحويني، وقد غرّد ابنه حاتم بعد سيطرة مرتزقة أردوغان على طرابلس “إياك أن يحملك الخلاف مع أردوغان على محو وهدم فضائل الخلافة العثمانية التي كان فيها السلطان محمد الفاتح الذي فتح القسطنطينية، إسطنبول، وحوّل كنيسة آيا صوفيا لمسجد. إياك أن تصف الخلافة العثمانية بالاحتلال… اعدلوا هو أقرب للتقوى”.
لم يسعَ عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص إلى تحويل كنائس فلسطين ومصر إلى مساجد. ولكن هوس الغزو، والاستيلاء على دور للعبادة وتحويلها إلى مساجد، يجد هوى في نفوس المهزومين، وينتعشون باستدعاء تلك الذكريات؛ للصبر على الهوان الحالي، وهم لا يختلفون إلا في الدرجة عن خطاب ابن الحويني الفخور بتحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد.
في “مؤتمر الأزهر العالمي للتجديد في الفكر الإسلامي”، يناير 2020، انفعل الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر على المطالبين بتجديد الفكر الديني، قائلا إن التراث “حمل مجموعة من القبائل العربية التي كانت متناحرة ولا تعرف يمينا من شمال، في ظرف ثمانين عاما، إلى أن يضعوا قدمهم في الأندلس وقدمهم الأخرى في الصين”.
ولعل الحكمة تقتضي وضع الفتوحات في سياق تاريخي تتساوى فيه طموحات المنتصرين. والاعتراف بتاريخية الجهاد، وإخضاع شعوب لم تمارس عدوانا على المسلمين، يجنبنا مجادلات كارهي الإسلام بأن أهل مصر أو الأندلس لم يستغيثوا بعمر بن الخطاب أو الوليد بن عبدالملك طالبين تحريرهم من الظلم.
في جهالات صباي كان سلفيون من طلاب الجامعة يضربون لنا أمثلة لما يرونه عصور العزة، وسمعتُ من أحدهم أن رسولا لقائد مسلم ذهب إلى كسرى، وبدافع من مبدأ أن يكون المسلمون أعزّة على الكافرين دخل الإيوان بحصانه، ثم هبط وثقب السجادة بطرف سيفه ثقبين، وأدخل فيهما الحبل لتقييد حركة الحصان، وطرح على كسرى الخيار الثلاثي الشهير: الإسلام، الجزية، القتال.
بمثل تلك التربية الاستعلائية المريضة يفخر ابن الحويني وغيره بتحويل كنائس إلى مساجد، ويجري التسويغ الديني الساذج للسلوك التركي الدامي في سوريا وليبيا، فيعمي الأبصار عن حقيقة أن تركيا أكبر حليف عسكري واقتصادي لإسرائيل في المنطقة، ويحاول أن يمحو من الذاكرة جرائم العثمانيين التي بدأت بقتل السفاح سليم الأول لأكثر من عشرة آلاف مصري بعد الغزو. ودماء المصريين، في تلك المأساة التي تصنف الآن جريمة ضد الإنسانية، ليست أغلى عند سليم من استباحة الصعود إلى الكرسي على جثث إخوته. وعلى من يشعر بالحنين إلى تلك الخلافة الدامية الآفلة أن يراجع آدميته.
لنترك العاطفة الدينية والوطنية ونقرأ المشهد على الأرض. لم يكن أي احتلال لمصر عابرا، باستثناء احتلال العثمانيين لثقتهم، بمشاعر اللصوص، بأنهم عابرون، فاكتفى السفاح سليم بصيغة الاحتلال بالوكالة، واختار لهذه المهمة المملوك خاير بك الجركسي، وكان نائبا للسلطان قنصوة الغوري في حلب، وبخيانته وانضمامه إلى جيش العثمانيين سهل احتلال مصر، وكوفئ بتنصيبه أول حاكم لمصر من قِبل السفاح، وطاردته لعنة المصريين فأطلقوا عليه لقب “خاين بك”.
بقي الوكيل يمدّ أسياده بالخراج، وعاد اللص بمنهوبات من المخطوطات ونفائس التراث المعماري، وحملت آلاف الجمال إلى عاصمة الغزاة أبوابا أثرية وشبابيك ومشربيات من المساجد والوكائل والتكايا. وتم تفريغ مصر من رصيدها الثقافي والفني والمهني، بقنص نحو ثلاثة آلاف من المتخصصين المهرة في أكثر من خمسين حرفة، وترحيلهم إلى إسطنبول. وكانت الخلافة العثمانية وبالا على العالم الإسلامي، وأغرقته في التخلف لنحو أربعة قرون، بفتوى مشايخ السلطان بتحريم المطبعة. وأيّ احتلال منذ الإغريق فيستدل عليه بأثر، جاء الفرنسيون بالمطبعة، وترك البريطانيون خطوط السكك الحديدية.
وكما يوجد بالعاطفة عبيد للعثمانيين، فلا يخلو العلمانيون من استلاب ذهني، وبعضهم احتفل في مصر عام 1998 بمرور مئتي عام على الحملة الفرنسية، وجادلوا بأن الجيش غادر مصر عام 1801 بالمدفع وترك المطبعة. ولم يصدُق ادعاؤهم؛ فالجيش الذي ضم فنانين وعلماء في التخصصات كافة، بهدف “وصف مصر”، عاد بالمطبعة. فماذا أورثتنا خلافة، تغذت بدماء أولي القربي للسلاطين، غير ترسيخ الجهل؟
لم يسهم هذا الاحتلال الفقير حضاريا في بناء مدرسة، ولم يطوّر معرفة بالدين والحياة. ونجح وكلاؤهم في تصدير أساطير أشهرها رفض السلطان عبدالحميد للمشروع الصهيوني في فلسطين. وتكشف هذا الوهم دراسات منها كتاب الدكتورة فدوى نصيرات “دور السلطان عبدالحميد الثاني في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين 1876 ـ 1909”. وعلى نفقة السلطان استضيف تيودور هرتزل مرتين، من بين خمسة لقاءات بينهما، “وكان السلطان مشدودا لمشروع هرتزل، لأن هدفه… كان تخليص الدولة من تبعيتها وديونها لأوروبا، واستخدم أطماعهم في فلسطين طريقا لتحقيق هدفه”، فكيف لعاقل أن يتوقع حرص أردوغان على ليبيا؟