دبلجة مغاربية بمغاربية

في مسلسل كوميدي بريطاني قديم، عن مدرسة لتعليم اللغات، يدخل عربي ومعه سائقه الإنجليزي. يتحدث العربي بلغة إنجليزية سليمة ويطلب من مديرة المدرسة مقعدا دراسيا بشكل استثنائي بعد أن فات موعد التسجيل. ولأن المسلسل من السبعينات ويكرر الصور النمطية بلا حرج نشاهده هذه الأيام بسبب الحزازيات العرقية والدينية. من بين المشاهد التي يعرضها العمل أن العربي الثري يرمي برزمة مال أمام المديرة لتسمح بتجاوز التأخير. توافق المديرة، لكن زميلها المدرس الذي يقف بجانبها يسأل: يا سيدي، لماذا تريد أن تتعلم الإنجليزية وأنت تتحدثها وكأنك من أهل لندن؟ يرد: أريد أن تعلموا سائقي الإنجليزية لأنه من شمال إنجلترا وأنا لا أفهم ما يقول.
وهذا ما يحدث فعلا. فيكاد من المستحيل فهم ما يقوله لك مواطن إنجليزي من مدينة ليدز أو مدينة نيوكاسل. لهجته تبدو صعبة على الفهم بالنسبة إلى ابن لندن، ومن المؤكد عصية أو مستحيلة الفهم لعربي تعود سماع إنجليزية بسيطة. اللهجة من أهم معوقات النقل الشفاهي للثقافة.
انتبهت في أول سنة دراسية في مرحلة الدراسات العليا في بريطانيا إلى أن لا مشكلة لدي في فهم ما يقوله الأساتذة في الجامعة. لكن ما إن أخطو خارج الجامعة، وخصوصا إذا ذهبت إلى جنوب لندن حيث تسود لهجة اسمها “كوكني”، حتى يتراجع الفهم. وإلى اليوم، وبعد كل السنين الطوال للعيش في بريطانيا، أتمنى أن تكون مع أي شخص إنجليزي من شمال إنجلترا أو من أسكتلندا يتحدث معي، شاشة افتراضية تقوم بكتابة ما يقوله نصّا، مثلما أفعل عند مشاهدة الأفلام والمسلسلات. كل ما يقدم الآن من برامج تلفزيونية تصاحبه إمكانية تشغيل النص؛ شيء أشبه بالترجمة، ولكنها تقدم باللغة نفسها بدلا من لغة أخرى. بدأت الخدمة بالأساس للصم أو ممن يعانون من ضعف السمع، لكنها مناسبة جدا لمن هم أمثالي من المهاجرين.
انتبهت إلى جودة الصورة والمحتوى الدرامي للكثير من المسلسلات المغربية والتونسية. يجد أهل المشرق صعوبة في فهم لهجات المنطقة المغاربية. ولعل هذا من الأسباب التي جعلت الإنتاج الدرامي المغاربي لا يحقق الكثير من الانتشار في الفضائيات المشارقية (لا أريد القول الخليجية، أي صاحبة التمويل السخي). المصريون فرضوا علينا تجاوز العقدة مبكرا منذ أن صاروا رواد صناعة السينما قبل قرن من الزمن، ورواد صناعة الدراما التلفزيونية منذ أربعة عقود تقريبا. آذاننا تعودت على اللهجة المصرية، ثم تعودت على السورية واللبنانية والبدوية الأردنية. لكن اللهجات المغاربية بقيت صعبة، وتزداد صعوبتها كلما تحركت غربا. ثمة الكثير من الإنتاج الدرامي الراقي القادم من الدول المغاربية لا يجد طريقه بسهولة إلى الفضائيات في المشرق والخليج لهذا السبب.
لاحظت أن بعض مؤسسات إنتاج الدبلجة التي أبدعت في دبلجة المسلسلات التركية والمكسيكية وإيصالها بلهجة سورية، باعتبارها أصبحت “اللهجة البيضاء” أي الجامعة، والتي تم الاعتياد عليها بحكم غزارة الإنتاج التركي المدبلج، صارت تقوم بدبلجة المسلسلات التونسية والمغربية بلهجة سورية. هذه فكرة جيدة، لكنها ستبقى محدودة لاعتبارات عديدة معظمها إنتاجي.
أنا اليوم أقدم اقتراحا مختلفا؛ لماذا لا يعمد منتج المسلسل المغربي مثلا إلى إعادة دبلجة أصوات الممثلين والممثلات المغاربة بأصوات الممثلين والممثلات أنفسهم، ولكن بعد تدريبهم على تخفيف حدة اللهجة. في كثير من الأحيان يعمد المغربي إلى تهدئة لهجته في تخاطبه مع الزائر العربي وينطق بمفردات مغربية، ولكن بحدة أقل. هكذا نحافظ على أصوات الممثلين والممثلات في أعمالهم، ويبدأ المشاهد المشارقي بالتعود على لهجة مغاربية “بيضاء”، وتبقى اللهجة المغربية أو التونسية الموجهة لابن البلد موجودة وتتوفر نسخة من المسلسل أو الفيلم بلهجة قريبة إلى الأذن المشارقية. هذا يغني عن اصطحابنا إلى معهد لتعلم اللغة العربية في الدار البيضاء ليكتشفوا أن التلميذ من أمثالي، مشكلته النطق بلهجة مفهومة أو الاستماع إليها.